" حفظُ السر من مقاييس الفضل والكمال "
" حفظُ السر من مقاييس الفضل والكمال "
يقول العلماء: إن الأمين على السر أكمل من الأمين على المال لأن العفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار ولأن الإِنسان قد يذيع سر نفسه بمبادرة لسانه وسَقَط كلامه ويشُح باليسير من ماله حفظًا له وضنًا به، ولهذا كان أمناء الأسرار أشد تعذرًا، وأقل وجودًا من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار.
يقول الماوردي: (إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسره أمينًا، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحرَّ المرء في اختيار مَنّ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كلُّ مَنْ كان أمينًا على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمنًا، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يضيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظًا لهُ وضنًا به، ولا يرى ما أضاع من سره كبيرًا، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عظم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذرًا، وأقل وجودًا من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق).
والذي يحفظ السر إنسان قوي الإرادة، صلب العزيمة استطاع أن يجاهد نفسه ويقهر شيطانه، ومن هنا يمكن للإنسان أن يأنس به ويستريح إليه في صداقة أو معاملة أو غير ذلك.
وقد تدعو الضرورة بعض الناس إلى الإِفضاء بأسرارهم إلى بعض أصدقائهم من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، مَن وصف بالأمانة والدِّين والعقل. ويذكر الماوردي بعض الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: (ذا عقل صادّ، ودين حاجز، ونصح مبذول، وودٍّ موفور، وكتومًا بالطبع).
قال أبو حاتم: المستشار مؤتمن، وليس بضامن، والمستشير متحصِّن من السقط، متخيرّ للرأي.
والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجا: أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته.
وتأمل معي أيها القارئ الكريم تلك النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يقول تعالى: " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " [الأحزاب: 72].
وقال تعالى: " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " [ق: 18] قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (رواه البخاري ومسلم).
والجدير بالذكر أن الذي يحمل على إفشاء السر عدة أمور منها:
1- العُجب والفخر والزهو وذلك بإظهار علمه بشيء لا يعلمه غيره، وقديمًا حمل هذا الشعور بعض الناس على إيراد الغرائب والعجائب - وحمل أهل الكتاب - وبخاصة الأحبار - على افتراء أمور غريبة وحكايتها للناس ليظهروا لهم عملهم وقام القصاص بدور كبير في اختراع القصص، بل وفي وضع الأحاديث على الرسول صلى الله عليه وسلم لإظهار مكانتهم، واستجداء خير الناس، أو تعظيمهم لهم، فقد يكون الحامل للرجل على إفشاء السر مثل هذا الشعور.
2- من طبيعة الإِنسان حبُّه إتيان ما مُنع منه، فإن المحظور يُغري بارتكابه إن لم تكن هناك عصمة من خُلق أو دين كما يقول القائل: (أحب شيء إلى الإنسان ما منعناه منه).
3- النكاية أو التشهير، فإن إفشاء السر يؤذي صاحب السر إيذاء شديدا، والسر سلاح خطير قد يستعمل في الشر إن لمن يكن هناك خلق أو دين. ونرى ذلك حين عداوة الأصدقاء أو عند يطلق الرجل زوجته فتفشي الأسرار نكاية وحقدًا.
4- الاستفادة من هذه الأسرار التي عرفها فهي معلومات يمكن له أن ينتهزها فرصة ويستعملها في خير يفيده، كمن يودع سر صنعته، أو خططه الاقتصادية مثلاً عند غيره من الناس فيفشيها باستعمالها وتطبيقها، وبذلك يفّوت غرضًا طيبًا كان يقصد إليه صاحب السر من كتمانه وإيداعه عند هذا الشخص. فإفشاء السر يكون إما لطبيعة في النفس، وإما لإرادة الشر للغير، أو حب الخير للنفس.
والمسلم مطالب بتربية نفسه على الخير والبعد عن الظُّلم في إفشاء الأسرار وحتى يعوِّد المرء نفسه على حفظ السر عليه:
أولاً: مراقبة الله – عز وجل – وهو موقن بأنه سبحانه مطلع على كل خافية فلا يعصيه بإفشاء سر استؤمن عليه.
ثانيًا: حب الخير لكل مسلم ومعرفة أن هناك ضررًا قد يقع على صاحب السر إذا اظهره.
ثالثًا: استشعار الضرر الذي يقع على المسلم من جراء إفشاء سره فلربما لحقه أذى عظيمٌ من جراء إفشاء سره فقد تكون زوجة تطلق أو موظفًا ينال منه أو قريبًا يهجر أو صديقًا تتقطع المودة.
رابعًا: إن إفشاء السر مظلمة لأخيك يجدها يوم القيامة ويحاجُّك بها عند الله -عز وجل-.
خامسًا: من صفات الأخوة المحافظة على العهد والوعد وعدم إفشاء ما يسمع من أخيه المسلم.
سادسًا: أنك بإفشاء السر تفقد نعمة عظيمة وهي نعمة مشاورة الناس لك واختيارهم إياك وثقتهم فيك !.
مختارات