التفكُّر سبيـــــــل التعظيــــم
التفكُّر سبيـــــــل التعظيــــم
أعظم إضافة قد يضيفها العبد إلى حياته، هي أن يرتقي إلى معرفة ربِّه عزَّ وجلَّ حقَّ المعرفة.. فيتعرَّف على كيفية معاملته لربِّه، ويُبصِّر طريق الوصول إليــه.. وحينها ستفارقه الآفـــــات والعيوب التي طالما أشتكى من إعاقتها له في الطريــــق..
فمن الثمرات العظيمة لمعرفة الله عزَّ وجلَّ، أنها: تُخرجك من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكِبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة..
وأولى علامـــات المعرفة هي:
التعظيـــم لله تبـــــارك وتعالى..
قال بعضهم " من إمارات المعرفة بالله: حصول الهيبة منه، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته " [مدراج السالكين (3،338)]
لقد ورد اسم الله تعالى العظيم في القرآن تسع مرات، وعلينا أن نتدبَّر تلك المواضع التي ورد فيها ونتأمل ما فيها من معاني التعظيم لله عزَّ وجلَّ.. ومنها:
أولاً: أن من لم يُعظِّم الله عزَّ وجلَّ متوَّعد بأشد العذاب..
فبعد وصف شدة العذاب الذي سيلقاه أصحاب الشمال يوم القيامة، قال تعالى {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 33].. فالذي يؤمن بالله العظيم لا يمكن بحال أن ينتهك الحُرُمـات، ولا يمكن أن يقع في شراك الدنيـــا؛ فيفتنه المال والجـاه والسلطان وتشغله تلك الفتن عن حقوق الله تبـــارك وتعالى..
فمَنْ لم يُعظِّم أوامر الله تعالى ونواهيه، متوَّعد بأن يكون من أصحاب الشمال والعياذ بالله،،
ثانيًا: الامتثـــال والخضوع لله العظـــيم..
وخُتِمَت سورة الحاقة بقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 52].. بعد الوعيد الشديد الذي تضمنته الآيــات، إذا زاد النبي ما لم يأذن به الله.. فقال تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (*) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (*) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (*) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44،47]
وفي هذا تذكرة لكل من سلك السبيل إلى الله تبارك وتعالى، بأن المُعظِّم لأمر الله تبارك وتعالي منقــاد، مستسلم، خاضِع، لا يتزيَّد ولا يتنقَّص، يسير حذو القُذة بالقُذة.. ومن خالف ذلك، فليس من المعظمين ومتوَّعد بعذابٍ أليـــم.
ثالثًا: اقتران اسم الله تعالى العليّ باسمه العظيـــم..
وذلك في أعظم آيـــات القرآن؛ آية الكرسي.. قال تعالى {.. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].. فصفتي العلو والعظمة من صفات الكمال، ويجتمع مع اقترانهما كمالٌ ثالث.. فالله تعالى حاذ العلو بكل أنواعه؛ علو في ذاته وعلو في صفاته.. وجمع العظمة بكل صورها؛ فهو عظيم في علوه وعالٍ في عظمته سبحـــانه وتعالى.
وفي مُفتتح سورة الشورى.. قال تعالى { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (*) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ.. } [الشورى: 4،5].. فعلو الله سبحانه وتعالى يقتضي في حقك أن تعلو على سفاسف أمور الدنيا، وفي نفس الوقت تتواضع ولا تتعالى على غيرك من المؤمنين.
وإذا عرفت الله عزَّ وجلَّ بصفة العظمة، ستعرف قدر نفسك ولن ترى لها شيئًا.. وستتعامل بمنتهى الإجلال والتعظيم والهيبة مع الله تبارك وتعالى.
رابعًا: التفكُّر سبيـــل التعظيـــم..
بعدما عدد الله تبارك وتعالى نعمه على عباده، ختم الآيات في سورة الواقعة بقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].. فكأن التأمل في خلق الله جلَّ وعلا والتفكُّر في بديع صنعه سبحانه وتعالى، يورث تعظيـــم قدره لا محالة..
يقول الله جلَّ وعلا {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]
عن قتادة في هذه الآية، قال " من عميَّ عما يراه من الشمس والقمر والليل والنهار وما يرى من الآيــــات ولم يصدق بها، فهو عما غاب عنه من آيـــــات الله أعمى وأضل سبيلا " [الدر المنثور (5:318)]
فالتفكُّر يورث التعظيـــم، وعكسه يورث الغفلة والعمى..
وقال تعالى { وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]
قال خليفة العبدي: " لو أن الله لم يُعبَد إلا عن رؤية ما عبده أحد، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء وملأ كل شيء ومحا سلطان النهار.. وتفكروا في مجيء هذا النهار إذا جاء فملأ كل شيء وطبق كل شيء ومحا سلطان الليل.. وتفكروا في السحاب المسخَّر بين السماء والأرض.. وتفكروا في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. وتفكروا في مجيء الشتاء و الصيف.. فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربُّهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته.. ما رأى العارفون شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير وعافية " [لطائف المعارف (1:347)]
تفكَّر.. فعَرِفَ.. فعظَّم..
فيعبـــد الله كإنه يـــراه..
إذًا، كيف نصل إلى تعظيــــم الله سبحانه وتعالى؟ وما حظنا من اسمه تعالى العظيم؟
حظ العبد من اسم الله تعالى العظيـــــم
أولاً: تعظيـــم أوامره ونواهيـــه..
يقول تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].. فمن تعظيم الله عزَّ وجلَّ أن تُعظِّم أوامره بالقيام بحقوقها، وتُعظِّم نواهيه باجتنابها..
وتعظيم الحُرمـــات على ثلاث درجـــات.. كما يقول ابن القيم، بحيــث ألا تُعَارَض بــــ..
1) ترخص جــــافي.. الذي يستخدم صاحبه الرُخص التي شرعها الله عزَّ وجلَّ لعباده في غير ما جُعِلت له، حتى يُخرجها إلى حد الجفــاء.. كرخصة الإبراد بصلاة الظهر حال شدة الحر، فمن يقوم بتـــأخير الصلاة إلى قرابة نهاية الوقت في تلك الحالة فقد وقع في الترخص الجــافي.
2) التشدد الغالي.. الذي يتجاوز صاحبه حد الاعتدال ولا يأخذ بالرخص أبدًا، كمن لا يأخذ برخصة قصر الصلاة في السفر المُبـــاح.. فيشق على نفسه ويتشدد، وهذا منافي للتعظيم.. كما قال رسول الله " إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته " [رواه أحمد وصححه الألباني، صحيح الجامع (1886)]
التعظيم اعتـــدال، فلا يُعارض بترخصٍ جـــافٍ ولا بتشددٍ غالٍ،،
3) علة توهن الانقيــــــاد.. فهذا الذي يتأوَّل الأحكام الشرعية ويأتي بعلل واهية ليُبيح لنفسه المُحرمـــات..
كالذي يُبيح لنفسه التعامل بالربا، بحجة أن العلة من تحريم الربـــــا هي استغلال الفقراء وطالما لن يكون هناك استغلال للفقراء فالربـــا حلال!!!!.. أو من تقول طالما الملابس محتشمة، فلا داعي للحجـــاب الشرعي الذي فرضه الله تعالى!!.. وبلغ الأمر بالبعض أن يتهاون في الصلاة، وطالما القلب عامر بالإيمان فلا إشكـــال !!!..
وهؤلاء بعيدين كل البُعد عن تعظيم الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن القيم " علامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها؛ كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة ويعلم إنه وإن تقبلت منه صلاته منفردا، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا.. ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارًا، لأكل يديه ندمًا وأسفًا.. فكيف وكل ضِعف مما تُضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى؟؟!..فإذا فوَّت العبد عليه هذا الربح قطعًا وكثير من العلماء على أنه: لا صلاة له، وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها.. فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه.. " [الوابل الصيب (1:7،8)]
فلا تُفَرِّط.. لا تغلو.. ولا تأتي بعلة لكي تراوغ،،
ثانيًا: تعظيــــم الحُكم الكوني..
فلا يرى أي خلل أو عوج في أقدار الله تعالى، ويعلم أن حكم الله هو الأصوب في كل حال ويرضى بقضائه تمام الرضـــــا.. فعندما يحِل به البـــلاء أو يُمنع عنه رزقًا ما، يوقن أن ربَّه ما أراد به إلا الخير ومنعه عين العطـــاء.. ولا ينتظر العوِض في مقابل طاعته لربِّه عزَّ وجلَّ.
ثالثًا: تعظيــــم الحق سبحانه وتعالى..
وهو أن لا يجعل دونه سببًا، ولا يرى عليه حقًا، أو ينازع له اختيارًا.. وهي من أعلى درجـــات اليقين.. فتعظيمه سبحانه وتعالى من خــلال ثلاثة أشيــاء:
1) أن لا يجعل دونه سببًا.. فهذا الذي تيَّقن بأن ربَّه هو المُدبِّر لجميع أمره وشأنه .. فلا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يُقرب إليه سواه، ولا يدني إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضـــــــاه إلا به.
2) أن لا يرى عليه حقًا.. أي لا ترى لأحد من الخلق حقًا على الله، بل الحق لله على خلقه وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه سبحانه وتعالى.
3) ولا ينازع له اختيارًا.. أي إذا رأيت الله عزَّ وجلَّ قد اختار لك أو لغيرك شيئًا، فلا تنازع اختياره بل ارض باختيــــــــار ما اختاره لك فإن ذلك من تعظيمه سبحانه.
رابعًا: تعظيم وتوقير النبي..
قال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (*) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8،9].. أي: تُعظِّموه وتنصروه.. ويكون ذلك من خلال:
تعظيمه بالقلب: باتبــــاع ما دلنا عليه النبي.. واعتقاد كونه عبد الله ورسوله، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
وتعظيمه باللسان: بكثرة الثناء عليه بما هو أهله.. بما أثنى عليه ربُّه وأثنى به على نفسه من غير غلوٍ ولا تقصير.. قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
وألا نذكره باسمه مجردًا أبدًا.. وإنما لا بد من زيادة ذكر النبوة والرسالة والصلاة عليه.
وتعريــــف النـــاس بـــه.. بتعداد فضائله وصفاته وأخلاقه، ودلائل نبوته.
أما تعظيم الجوارح: فهو بالتـأسي بسُنَّته..
فإذا أردت أن تعرف إن كنت تُعظِّم ربَّك جلَّ وعلا بحق أم لا، انظر إلى مقدار تأسيــــك بنبيه محمد ومقداره في قلبك،،
خامسًا: تعظــيـــم الذنب..
عن ابن عباس أنه قال: " يا صاحب الذنب، لا تأمننَّ سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب إذا عملته. قلَّة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظمُ من الذنب الذي صنعته.. وضحكك، وأنت لا تدري ما الله صانعٌ بك، أعظم من الذنب.. وفرحك بالذنب إذا عملته أعظم من الذنب.. وحزنك على الذنب إذا فاتك، أعظم من الذنب إذا ظفرت به.. وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظمُ من الذنب إذا عملته " [صفة الصفوة (1:298)]
وعن ابن مسعود قال " إن المؤمن يرى ذنوبــه كأنه في أصل جبــــــل يخـــــاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا فطار " [صحيح البخاري]
نسأل الله تبـــارك وتعالى أن يجعلنا له مُعَظِّمين، وأن يستودع في قلوبنا هيبته،،
مختارات