" في رحاب الصلاة من التكبير إلى التسليم "
" في رحاب الصلاة من التكبير إلى التسليم "
1- تمهيد: الصلاة عماد الدين، وركنه المتين، والمسلم مطالب بتدبر سورة الفاتحة في تلاوته بصفة عامة، وفي صلاته بصفة خاصة، فلا يليق بالمسلم أن يقف بين يدي الله تعالى ويأتي بأفعال وأقوال لا يحاول فهم معناها، ولا يليق به أن يناجي ربه في صلاته بكلام ما يدرك معناه، وقد أمر سبحانه بتدبر القرآن وحض عليه في قوله تعالى:
" أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا " [النساء: 82].
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " [محمد: 24].
ولو وقف الإنسان بين يدي مسئول من الخلق، وشرد عنه بذهنه وهو يحادثه؛ لكان ذلك جُرمًا كبيرًا يعاقب عليه، فكيف به وهو واقف بين يدي رب العباد، وملك الملوك، وهو سبحانه يجيب عبده حال قراءته للفاتحة: «حمدني عبدي» «أثنى علي عبدي» «مجدني عبدي»، «هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل».
وعدم تدبر القرآن نوع من هجره، وقد شكا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه عدم تدبر أمته للقرآن، وهجرهم له، فقال تعالى: " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا " [الفرقان: 30].
ولا ينبغي للقارئ أن يصرفه عن التأمل والتدبر؛ انشغاله بتحسين القراءة، والحرص على أداء الحروف والألفاظ، والمبالغة في ذلك.
وتحسين الصوت بالقراءة أمر مطلوب، رغب الإسلام فيه، وحث عليه، وهو يعين على الخشوع والخضوع، ولكن الذي لا ينبغي هو صرف الهمة إلى الألفاظ، والمبالغة فيها، وانشغال القلب بها أكثر من انشغاله بالمعنى، فيصرفه هذا التكلف عن تدبر المعاني، وفقه الآيات، وفهم مقاصدها وأهدافها.
وقد مدح – سبحانه – الخاشعين في صلاتهم، وبين أن الخشوع في الصلاة من صفات المؤمنين الذين فازوا بالفلاح يوم القيامة، فقال تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " [المؤمنين: 1، 2] فكان الخشوع في الصلاة هو أول صفاتهم وأخصها.
ومما يعين على الخشوع في الصلاة، تدبر قراءة سورة الفاتحة، وتدبر ما يقرأه المسلم أو يستمع إليه في الصلاة من القرآن الكريم، وتأمله له بوعي وإدراك وإقبال على الله تعالى، والتأمل أيضًا في أفعال الصلاة من قيام وركوع وسجود واعتدال، وكذا ما يقرؤه المسلم بعد ذلك من أذكار.
إن فهم سورة الفاتحة، وتحليل ألفاظها، ومعرفة مقاصدها وأهدافها يعين على الخشوع في الصلاة، وعلى دعم الصلة بين العبد وربه، وصدق العروج إليه سبحانه بالقلب والروح آناء الليل وأطراف النهار في الصلوات الخمس.
2- الله أكبر: يقف المسلم بين يدي الله تبارك وتعالى متطهرًا، مستقبلًا القبلة مستحضرًا عظمة الله تعالى، كأنه يستقبل وجهه الكريم، ناويًا في قلبه أداء فرضه أو نافلته، بادئًا صلاته بالتكبير، مستشعرًا بأن الله تعالى أكبر من كل شيء في الوجود، أكبر من الدنيا وما فيها وما عليها، أكبر من المال والبنين، أكبر من المنصب والجاه، يقف بين يدي ربه يدعوه ويناجيه ويخاطبه، فلا يليق أن يُشغل عنه بغيره، ولا أن يفكر فيما سواه.
والتكبير من العبد إقرار لله تعالى بالكبرياء والعظمة، وبراءة للمصلي من صفة الكبر، حتى لا ينازع ربه صفة من صفاته، وحتى يتحلى بصفة التواضع، وإذا تواضع العبد لله رفعه؛ لأنه صار في مقام العبودية، وهو سبحانه يحب المتواضعين، ولا يحب المستكبرين.
3- دعاء الاستفتاح: يستفتح المؤمن صلاته بالثناء على الله تعالى، وتوجيه وجهه إليه سبحانه، متبرئًا من الشرك وأهله، سائلًا ربه التوبة وغفران الذنوب، ومقرًا بأن حياته ومماته وصلاته ونسكه لله وحده لا شريك له، متوجهًا بجسمه وعقله وقلبه إلى خالق هذا الكون ومبدعه، فاطر السموات والأرض، فهو وحده المستحق للعبادة دون سواه، وكأن المسلم حين يقرأ دعاء الاستفتاح، يشاهد ربه بقلبه، وينزهه عن جميع النقائص، ويقر باستحقاقه للحمد والثناء كله، فهو الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، تعالى جده، وارتفعت عظمته فوق كل شيء، سبحانه أن يكون له شريك في ملكه،أو في إلهيته وربوبيته، أو أفعاله وصفاته، فإليه وجهت وجهي، ومنه وحده أطلب غفران ذنبي.
ومن أدعية استفتاح الصلاة:
(أ) «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد» (أخرجه البخاري ومسلم).
(ب) «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، وأنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» (أخرجه مسلم والنسائي في الكبرى).
4- الاستعاذة: ثم يعتصم المسلم بجانب الله تعالى من كيد الشيطان ومكره، ويستجير به من همزة ونفخه ونفثه، مقرًا ومعترفًا بعداوته له، وبعجزه وضعفه أمام حيله ووساوسه، ويُعلن أنه باستعاذته بالله تعالى يأوى إلى ركن شديد، ويعتصم بحول الله تعالى وقوته من عدوه اللدود الذي يريد أن يقطع الصلة بينه وبين ربه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
5- التسبيح في الصلاة: وفي التسبيح أثناء الركوع والسجود إقبال على الله تعالى، وتنزيه له سبحنه، وتقديس لعظمته، واقتراب من ساحة رضوانه " وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " [العلق: 19] " فسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " [الواقعة: 74] " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " [الأعلى: 1].
وفي الدعاء بين السجدتين وبعد الركوع تعبد وتضرع وخشية وإنابة، وقد خص القيام بالقراءة، والركوع والسجود بالذكر والتسبيح، حال انخفاض المسلم وخضوعه وخشوعه مع وصف الله تبارك وتعالى بالعظمة والعلو، وهو يضاد الكبر ويعالجه.
6- التشهد: كان الناس في الجاهلية يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع من التحيات المختلفة من تقبيل للأرض، أو سجود، أو قيام، أو ركوع، أو انحناء، أو تسليم مع تعظيم، كما نرى ذلك بين يدي بعض الملوك والرؤساء؛ وكان بعضهم يقول: أنعم صباحًا، أو لك البقاء والنعمة، أو أطال الله بقاءك، أو تعش ألف عام.
قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الطيبة، فلما جاء الإسلام أمر أن يجعلوا أطيب التحيات وأزكاها وأفضلها لله تعالى، فقد ألغى الإسلام جميع أنواع التحيات التي كانت تحيا بها ملوك الأرض وأصنامها، وجمع الإسلام كل هذه التحيات ونحوها لله تعالى خاصة، وأمر أبناءه أن يتوجهوا بها إلى الحي القيوم، فهو وحده المستحق لجميع التحيات والتعظيمات، ولجميع ما يحيي به البشر عظماءهم وملوكهم، ومن عجب أن يبقى شيء من رواسب الجاهلية يُعظم به بعض الملوك والحكام إلى وقتنا هذا.. !!
وهذه التحيات هي التي حيا بها الرسول ربه ليلة الإسراء والعروج حيث قال: «التحيات لله والصلوات والطيبات»، وقد أمر المسلم أن يقرأ هذه التحيات حين يعرج إلى ربه في صلاته، أي: أن التحيات بجميع ألوانها مستحقة لله وحده، فهو الحي الدائم الذي لا يزول ملكه، خالق الخلق وموجدهم من العدم.
والصلوات: بأقوالها وأفعالها وأذكارها ودعائها يُراد بها تعظيم الله تعالى، فهو وحده المستحق لها، والصلاة لغيره كفر وشرك.
والطيبات: من الأقوال والأفعال والصفات والأسماء، وكل ما يُثنى به على الله تعالى، وكل ما طاب من الكلمات والأعمال، لا يليق إلا بجلال الله سبحانه، حيث لا يعبد إلا الله، ولا يثنى إلا على الله، فهو سبحانه طيب، لا يقبل إلا طيبًا، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا طيب.
كل ذلك مستحق لله وحده، ولا يليق بغيره سبحانه، والمصلي يجلس بين يدي ربه جلسة الراغب الراهب، يسأل ربه ما لا غنى له عنه، ويقدم التحيات بين يدي سؤاله، ويتوسل إلى الله بعبادته والثناء عليه، والشهادة له وحده بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم يتبع ذلك بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يديه، ثم الصلاة على آله تكميلًا لقرة عينه، وهي أفضل صيغ الصلاة على الرسول، ثم يثني فيصلي على أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله.
7- السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته: السلام من أنواع التحيات، وقد شُرع للمسلم أن يبدأ بالسلام على أشرف خلق الله وأحبهم إليه، وأقربهم منه منزلة، وهو تنزيه للنبي صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا من جميع النقائص، ودعاء له بالرحمة، وثناء عليه، وتعظيم له.
والمسلم يستحضر في قلبه وهو يتشهد، عظمة الله عز وجل وهو يقف بين يديه، كأنه يراه، وهو الذي أرسل إليه نبيه محمدًا الذي يسلم عليه في صلاته ويقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وفي ذلك استحضار وترديد ومحاكاة لما حيا الله تعالى به رسوله ليلة العروج، والعبد وهو يصلي يعرج إلى ربه في صلاته ويخاطبه ويناجيه، ويقوم في حضرته بين يديه صباحًا ومساءًا، وهو يردد هذه الصيغة التي حيا الله تعالى بها رسوله.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم تحية ربه بقوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وهو دعاء بالوقاية والسلامة من جميع الآفات والنقائص، ودعاء يصيب كل عبد صالح في السموات والأرض إلى يوم القيامة.
وكان الناس في الجاهلية يقولون: السلام على الله من عباده، فنهوا عن ذلك، قال ابن مسعود: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» (مسلم والبخاري).
وأمر أن يستبدلوا ذلك بهذه العبارة: (السلام علينا وعلى عباده الصالحين) وكأننا لما بدأنا بالتحيات لله أراد سبحانه أن يرد علينا بالتحية، ولما لم يكن في مقدورنا أن نسمع كلام الله تعالى، فقد أجرى رد التحية على لساننا: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
وفي النطق بالشهادتين في التشهد أثناء الصلاة إقرار بالتوحيد والرسالة، وتجديد للعهد مع الله تعالى على الإيمان به، والاستمرار على العمل بشريعته، وإتباع هدي رسوله، وفيه تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار دينه، كما عظم إبراهيم أبو الأنبياء ورسالته فالمصلي يطلب من ربه أن يكون محمودًا محبوبًا مباركًا كما هو الشأن في أبيه إبراهيم.
8- الدعاء في نهاية التشهد: ثم يذكر العبد في نهاية الصلاة ربه سبحانه بما شرعه له من الأدعية في نهاية التشهد؛ من الاستجارة بالله تعالى من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا وفتنة الممات، وفتنة المسيح الدجال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» (من حديث أبي هريرة في مسلم وأبي داود وابن ماجة).
وبعد الاستعاذة بالله تعالى من أسباب الفتن ومجامع الشر يتخير العبد من أحب الدعاء له ولوالديه وجميع المؤمنين، ثم يسلم على الملائكة ومن معه من المؤمنين، ويتلفت يمينًا وشمالًا.
9- الذكر بعد الصلاة: ثم يُقبل العبد على الدنيا من جديد، بعد الفراغ من صلاته ذاكرًا ربه بما شرعه له من الاستغفار والثناء، وأنه وحده المعطي المانع، وأن الإنسان لا ينفعه نسبه وحسبه أو غناه وجاهه، ثم يسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويكبره ثلاثًا وثلاثين ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ويقرأ آية الكرسي والمعوذات.
وفي صلاتي الفجر والمغرب يزيد المسلم على هذه الأذكار: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) عشر مرات.
مختارات