الخـاتمـة
الخـاتمـة
صحبتك – أيها الحبيب – ربع الطريق.. وهكذا تكون المساعدة حقيقية، فإن من يتعطل فى بعض الطريق أو يسأل عن طريق، فإن الدليل لا يسير معه كل الطريق.. وكذلك من يقدم لنا المساعدة لا يتم به.
السفرة هذه سبع وعشرون من مئة تستكمل – إن شاء الله وقدر ولكنى أجربك: هل تصلح لهذا الطريق أم لا؟! لا تنتظر.. اسلك وانطلق.. وسيأتيك المدد من الملك.. وإياك أن تتأخر أو تلتفت.. وبعد أن سرت معى أول الطريق إياك أن تنقطع.
ويذكرك عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه.. ويحذرك فيقول:
" يا أخى، إنك قد قطعت عظيم السفر، وبقى أقله فاذكر – يا أخى – المصادر والموارد، فقد أوحى إلى نبيك صلى الله عليه وسلم فى القرآن أنك من أهل الورود، ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك وأن تغرك الدنيا، فإن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، يا أخى، إن أجلك قد دنا، فكن وصى نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك ".
وأخطر من ذلك: تهديد ابن القيم الذى يقول فيه:
" ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته، وقع فى آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب فى حياته عذابا لم يعذب به أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضر نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكى فلا يشتكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته، فقد أبدل بأنسه وحشة، وبعزه ذلا، وبغناه فقرا وبجمعيته تشتيتا، وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا، ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكبا عنها مكبا على وجهه، فأبصر ثم عمى، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر، ودعى فما أجاب، وفتح له فولّى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه، فهو مقيد القلب عن انطلاقه فى فسيح التوحيد، وميادين الأنس، ورياض المحبة، وموائد القرب.
فقد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل سافلين، وحصل فى عداد الهالكين، فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه – إذا أعرض عن ربه – حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشى على وجه الأرض، وروحه فى وحشة من جسمه، وقلبه فى ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال – والعياذ بالله – فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم، بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق، وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه، وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها، لتقطع – والله – قلبه، ولم يلتذ بطعام ولا شراب، ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب، هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى هى كخيال طيف أو مزنة صيف، نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها، وحيا بينه وبينها أقدر ما كان عليها، وتلك سنة الله فى خلقه كما قال – تعالى -:
" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (يونس: 24).
وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه، يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعا، فيكون معذبا فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له، وإن قسم له منه شىء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم، فهم لا ينقطع، وحسرة لا تنقضى، وحرص لا ينفذ، وذل لا ينتهى، وطمع لا يقلع.. هذا فى هذه الدار.
وأما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك: قد حيل بينه وبين ما يشتهى، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه.
وأما فى دار الجزاء: فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين، واغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين.
فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله، وقارنه سوء الحال، وفساده فى دينه ومآله، فإن الرب إذا أعرض عن جهة، دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وانكسفت أنوارها، وظهرت عليها وحشة الأعراض، وصارت مأوى للشياطين، وهدفا للشرور، ومصبا للبلاء، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها، أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منها خصوصا إذا مال بتلك الإرادة إلى شىء من اللذات، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات، عاكفا على ذلك فى ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، فقد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى، وكان الله فى تلك الحال وليه، لأنه ولى من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه، فأصبح فى سجن الهوى ثاويا وفى أسر العدو مقيما وفى بئر المعصية ساقطا، وفى أودية الحيرة والتفرقة هائما، معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض اخسيسة الفانية، كان قلبه يحوم حول العرش، فأصبح محبوسا فى أسفل الحش:
فأصبـح كالبـازى المنتف ريشـه يرى حسرات كلمــــــا طــار طائــر
وقد كان دهرا فى الريـاض منعمـا على كل ما يهوى من الصيد قـادر
إلى أن أصابتـه فـى الدهر نكبـة إذا هو مقصوص الجناحـين حاسـر
فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجبا له بأى شىء تعوض، وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض، وكيف اتخذ سوى أحنيته سكنا، وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا، أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار، ووافقه على مساكنة الأغيار.
فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه فى رضاه، وطالبا رضى من سعادته فى إرضاء سواه، إنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر، وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أو له لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة، ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة.
فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وأن الله – سبحانه – إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملإ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى وليا والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل إنى أحب فلانا فأحبه، فينادى جبرائيل فى السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض، فيوضع له القبول بينهم، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أخى الحبيب.. إنه لتهديد رعيب.. يذكره لك ابن القيم الأريب.. وأنت ممن ينفعه التهديد.. فإنه صوت يسوقك إلى الله – تعالى -.
استعن بالله وانطلق.. ولن أدعك.. اطمئن، فأنا أحبك فى الله، وسأعود إليك قريبا، لنواصل السير..
وصيتى: احفظ الله تجده تجاهك.. أستودعك الله الذى لا تضيع عنده الودائع.. ولقاؤنا قريب – إن شاء الله وقدر.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإيمان وإحسان إلى يوم الدين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *
مسك الختام
يا واهب المواهب، ومجزل الرغائب.. أعوذ بك من النزول بعد الوصول.. ومن الكدر بعد الصفا.. ومن الشوق بعد الأنس.. ومن طائف الحسرة لعارض الفترة.. ومن تغير الرضا.. ومن التخلف عن الحادى لحظة.. أو الإيمان دون العلم..ومن موقع حذر يوجب للعقل بطئا – يا رب – حتى تكمل النعم عندى.. ورق فى ذرى الكرامة مهجتى.. ونضر اللهم بالكمال لديك بهجتى.. وعزفنى عن الدون.. ووار علمى عن الخاطر.. يا من منح الأصفياء منازل الحق ومدى الغايات.. أصف هدايتى من دنس العارض.. واحسم عدوى عن ملاحظتى.. وأخلصنى بكمال رغبتى.. وبما لا يبلغه سؤالى.. إنك رحيم ودود.
* * *
مختارات