تغيير الأخلاق (٢)
وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق:
فأصحاب المجاهدات والخلوات والتمرينات راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم حكمة الله، وما طبع الله عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد له الطبيعة البشرية فاشتد القتال، وحمى الوطيس فانقطعوا ولم يصلوا.
وفرقة أعرضوا عنه، وشغلوا أنفسهم بالأعمال، ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات، مع تخليتهم إياها على مجراها، واشتغلوا بتحصين العمران، وأحكام بنائه وأساسه.
فهؤلاء صرفوا قوتهم وإرادتهم في العمارة والتحصين، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفاً من هدم البناء.
والفرقة الثالثة: رأت أن هذه الصفات ما خلقت عبثاً ولا سدىً، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك، وأن ما خاف منه أولئك هو سبب الفلاح والنجاة.
فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر، والبطر والظلم، والشر والعدوان.. ويسقي به علو الهمة.. والأنفة والحمية، والمراغمة لأعداء الله وقهرهم، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس.
فأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع، كالخيلاء فهي مبغوضة للرب، لكنها في الحرب أمام الأعداء، وعند الصدقة محبوبة للرب.
وكذلك خلق الحسد مذموم، لكن صرفه إلى الحسد المحمود الذي يوصل إلى المنافسة في الخير الذي يحبه الله أمر محمود.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» متفق عليه (١).
وكذلك خلق الحرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأوصلها إلى كل خير، وشدة الطلب بحسب قوة الحرص، فلا نقطعها ولكن نوجهها إلى ما ينفع النفس في معادها، ويزكيها بالإيمان والعبادات والطاعات.
فقوة الحرص لا تذم، وإنما يذم صرفها إلى ما يضر الحرص عليه من الشهوات والمعاصي، أو لا ينفع وغيره أنفع للعبد منه.
وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأوصلها إلى كماله وسعادته، فإنها تثمر المحبة، وبحسب شهوة العبد للكمال والاستقامة يكون طلبه.
وصدق الشهوة وقوتها وكمالها يحمل الإنسان على بيع مشتهى دنيء خسيس بمشتهى أعلى منه، وأجل، وأرفع من الطاعات والحسنات والجنات.
وكذلك خلق الشح والبخل لهما مصرفان:
مصرف محمود نافع للعبد، يحمله على بخله وشحه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يضيعها ويسمح بها لمن لا يساوي.
ويشح غايه الشح بحظه ونصيبه من الله أن يبيعه أو يهبه لأحد من الخلق.. ويشح بماله ألا يكون في ميزانه.. وأن يتركه لغيره يتنعم به ويفوته هو أجره وثوابه.
فالشحيح بماله المحب له هو الذي يقدمه بين يديه زاداً لمعاده، أما المصرف المذموم فهو من يشح ويبخل بماله ووقته أن يصرفه فيما يحب الله ورسوله.
وهذه قاعدة مطردة في جميع الصفات والأخلاق.
فالرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بصرفها عن مجاريها المذمومة، وإلى مجاريها المحمودة.
فجاءوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسري بدلاً من الزنا والسفاح، فصرفوا قوة الشهوة ومجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبه الله عزَّ وجلَّ.
وجاءوا بصرف قوة الغضب من الظلم والبغي إلى جهاد أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والغلظة عليهم، والانتقام منهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)} [التحريم: ٩].
وجاءوا بصرف قوة اللهو والركوب، إلى اللهو والرمي والمسابقة على الخيل وركوبها في سبيل الله واللهو في العرس والعيد.
وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا يذم بل يحمد، وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للقرآن، وأمر ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ عليه وسمع وتأثر بما سمع وبكى.
وهذا سماع خواص الأولياء، فلا بدَّ للروح من سماع طيب تتغذى به، ولذا قال سبحانه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)} [المزمل: ٤].
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ»، قال فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قال: «إِنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)} [النساء: ٤١]. رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيل. متفق عليه (٢).
والسماع المذموم سماع المكاء والتصدية، وألفاظ الخنا، وآلات المعازف.
فهذا غذاء.. وهذا غذاء.. ولكن لا يستوي من غذاؤه الحلوى، والطيبات، والعسل.. ومن غذاؤه الرجيع، والميتة، والدم، وما أُهلَّ به لغير الله.
وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ويترك الطبيب.
فالأنبياء والرسل هم أطباء القلوب والأبدان، وتزكية النفوس مسلَّم إليهم، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم.
والله عزَّ وجلَّ إنما بعثهم لهذه التزكية، وولاهم إياها كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)} [الجمعة: ٢].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلَاقِ» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (٣).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧٣)، ومسلم برقم (٨١٦). واللفظ له.(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٤٥٨٢)، ومسلم برقم (٨٠٠). واللفظ له.(٣) حسن: أخرجه أحمد برقم (٨٩٥٢).وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (٢٧٦)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (٤٥).
مختارات