فقه الإيمان باليوم الآخر (٥)
وفي يوم القيامة يجمع الله جميع الخلائق في جميع الأجيال والقرون، ولا يتأخر منهم أحد: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: ٩].
ويعرض الخلق كلهم على ربهم: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)} [الكهف: ٤٨].
ويحضر هذا الجمع العظيم الملائكة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، ويصفون جميعاً صفوفاً محيطة بالخلق كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)} [الفجر: ٢٢].
والسموات السبع العظيمة مملوءة بالملائكة، وحملة العرش ومن حوله، كل هؤلاء يحضرون لفصل القضاء بين الناس.
فكم يكون عدد الملائكة في هذا الجمع، وهم حافون من حول العرش؟: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)} [الزمر: ٧٥].
ويأتي الرب جل جلاله للفصل بين الخلق يوم القيامة، ويحمل عرشه سبحانه ثمانية من الملائكة الذين لا يعلم عظمتهم وقوتهم وقدرتهم إلا الله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)} [الحاقة: ١٧، ١٨].
وفي ذلك اليوم العظيم يحصل التغابن، لما فيه من فوز المؤمنين بالنعيم، وحرمان الكافرين من كل شيء منه، ثم سوقهم إلى الجحيم.
وذلك يوم عظيم، يوم الحسرة والندامة، يندم فيه كل كافر وكل عاصٍ على ما فرط وظلم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩)} [الفرقان: ٢٧ - ٢٩].
إن الإنسان الذي خلقه ربه في أحسن تقويم، والذي ميزه بهذه الإنسانية التي من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء، وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبساً من نوره.
هذا الإنسان يقطع رحلة حياته على الأرض كادحاً إلى ربه بفكره وجهده وعمله، ليصل في النهاية إلى ربه.
فإليه سبحانه المرجع والمآب بعد الكد والكدح والجهاد: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)} [الانشقاق: ٦].
إن الإنسان لا يجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك في الجنة لمن يقدم لها بالإيمان والطاعة والعبادة.
التعب في الأرض واحد، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك.
فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح ما قبله من كد وكدح.
فالمؤمن السعيد يحاسب حساباً يسيراً، فلا يناقش ولا يدقق معه الحساب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩)} [الانشقاق: ٧ - ٩].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ إِلا هَلَكَ».
قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، ألَيْسَ يَقُولُ الله عزَّ وجلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ: «ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» متفق عليه (١).
هذا حال المؤمن.
أما حال المعذب الكافر الهالك المأخوذ بعمله السيئ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره فهذا هو التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحاً، وقطع طريقه إلى ربه كدحاً في المعاصي والآثام والضلال، فهو يدعو ثبوراً، ويتمنى الهلاك لينقذ نفسه مما هو مقدم عليه من الشقاء والعذاب، ولكن أنى يستجاب له؟.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)} [الانشقاق: ١٠ - ١٢].
وهذا الصنف من الناس كان في الدنيا مسروراً بين أهله، غافلاً عن ربه، لاهياً عما ينتظره في الآخرة من العذاب، وهو يظن أنه لن يرجع إلى بارئه، وربه يعلم بكل خطواته وحركاته، ويعلم أنه صائر إليه.
فما أعظم خسرانه: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)} [الانشقاق: ١٣ - ١٥].
إن الإيمان بالغيب هو الذي يحكم السلوك الإنساني، فالذي يؤمن بالغيب وباليوم الآخر، وبالحساب والجنة والنار، يخشى الله سبحانه وتعالى في كل عمل يعمله:
فإذا أراد أحد أن يسرق تذكر الله، وتذكر أنه ملاقيه، وأنه سيحاسبه على ذلك، فيتراجع عن هذه السرقة.
وإذا أردت أن ترتكب ما حرم الله، وتذكرت الآخرة والحساب، خشيت الله وتراجعت.
فأساس السلوك البشري في الدنيا هو الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يدخل فيه أساساً الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالغيب والآخرة هو أساس الإيمان كله.
فإذا لم يعتقد الإنسان بالآخرة فممن يخاف ويخشى؟.
من ذا الذي يرفع يدك عن ضعيف تغتصب حقه إلا إيمانك بالآخرة.
ما الذي يوقفك عن أن تأكل أموال الناس بالباطل؟.
وما الذي يمنع الناس من الظلم والبغي؟.
إن الوازع الذي يقول لك قف مكانك، هو الإيمان بالآخرة، لأنك ستحس أن كل عمل عملته مكتوب عليه، وسيسألك الجبار عنه، فلولا الإيمان بالآخرة لتحولت الدنيا إلى مجموعة من الوحوش.
يقتل القوي الضعيف.
: ويعتدي القادر على العاجز.
ويضيع الحق.
وتباح الحرمات.
وتتنهب الأموال.
وتنتهك الأعراض.
وأخشى ما يخشاه المؤمن هو حساب الله له في الآخرة.
وأخشى ما يخشاه الكافر هو الحساب في الآخرة.
فالكافر وإن كان لا يؤمن بالآخرة ولكن في داخله شيء يؤرقه، والموت الذي يراه كل يوم في أهله وقومه يملأ حياته بالرعب والفزع، وينغص عليه عيشه.
والله عزَّ وجلَّ على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهو قادر على أن يخلق يوماً مقداره أربعة وعشرون ساعة.
وقادر على أن يخلق يوماً مقداره ساعة.
وقادر على أن يخلق يوماً مقداره مائة ألف سنة.
وقادر على أن يخلق يوماً يستمر بلا نهاية كيوم القيامة الذي لا ليلة بعده أبداً.
فالمخلوق ليس قيداً على قدرة الخالق، فالزمان والمكان كل خاضع لإرادة الله وحده، والأجسام والأحجام والأشكال والألوان خلقها بيد الله وحده.
وموعد قيام الساعة لا يعلمه إلا الله وحده، فهو الذي ينتهي إليه أمرها، ويعلم موعدها وحده، فلا يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا ذكي فطن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤)} [النازعات: ٤٢ - ٤٤].
أما الرسول فوظيفته إنذار من يخشاها، فهو الذي ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بمجيئها، فيخشاها ويعمل لها قبل مجيئها.
وهي من ضخامة وقوعها في النفس بحيث تتضاءل أمامها الحياة الدنيا بكل ما فيها، وتبدو كأنها بعض يوم: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)} [النازعات: ٤٦].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٤٩٣٩) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٨٧٦).
مختارات

