الأصل الثانى عشر : فى الطريق مواقف للتمييز
الأصل الثانى عشر: فى الطريق مواقف للتمييز
السائر إلى الله أو عموم من يعيش فى هذه الحياة لابد أن يتعرض لمواقف.. فهذه الحياة أمواج تترادف يركب الانسان فيها طبقا عن طبق.. هذه المواقف للتمحيص. قال - سبحانه -:
" قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " (آل عمران: 137 – 142)
تدلك هذه الايات على أن الله – سبحانه وتعالى – يقلب الايام على الناس ليتبين أحوالهم، وليعلم الله علم ظهور وإقامة حجة على العباد من يستحق الجنة ممن لا يستحقها.. فالسائرون إلى الله صفوة، ولكن " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبى من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم " (آل عمران: 179).
أيها الاخوة، التمييز بين النعمة والنقمة والفتنة، وبين المنة والحجة، وبين العطية والبلية، وبين المحنة والمنحة أمر مهم للسائر فى الطريق إلى الله.
ففى طريق الوصول إلى الله لابد أن تكون صاحب تمييز بين النعمة والفتنة.. فقد يصيب رجلين شىء واحد، ويكون بالنسبة لأحدهما نعمة وللآخر فتنة.. قد يكون الشىء الواحد لرجل بلية وللآخر عطية.
يقول ربك " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " (البقرة: 19) صيب " ماء " يحيي الله به الارض، ولكن فى نفس الوقت فيه ظلمات ورعد وبرق. " يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق حذر الموت " (البقرة: 19).
يقول العلماء: هذا هو المثل المائى الذى ضربه الله سبحانه وتعالى للقرآن، أنه صيب وهو للمؤمنين، قال – تعالى – " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " (الإسراء: 82).
فى قصة كعب بن مالك لما جاءه كتاب من ملك غسان يقول له: " بلغنا أنّ صاحبك قد قلاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة، فالحق بنا نواسك، لم يقل – أى كعب -: جاء الغيث.. ولكنه التمييز.. قال: " وهذا من البلاء، فتيممت التنور فسجرته ".
نعــم: فقد يرزق العبد مالا ويظن أنه نعمة ويكون هذا المال بالنسبة له فتنة.. قد يرزق عملا وهذا العمل من وجهة نظر الناس جميعا كرم، وهو فى حقه بلاء.. قد يحفظ القرآن ويكون عليه حجة.. نعم: القرآن حجة لك أو عليك.
قال العلماء: " إذا رأيت أن الله يعطى العبد على معاصيه، فاعلم أنه استدراج ".. تعصى ويكرمك، وتعصى ويزيدك، وتعصى ويبارك لك.. إذا سينتقم منك.. لا تطمئن، فهو – سبحانه – يجرك لينتقم منك، قال – تعالى – " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين " (القلم: 44 – 45).
يقول صاحب الظلال فى هاتين الآيتين: " وإن شأن المكذبين وأهل الارض أجمعين لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير.. ولكنه – سبحانه – يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الاوان، وليعلموا أن الامان الظاهر الذى يدعه لهم هو الفخ الذى يقعون فيه وهم مغرورون، وأن إمهالهم على الظلم والبغى والاعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير، وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزى والرهق والتعذيب.. وليس أكبر من التحذير، وكشف الاستدراج والتدبير، عدلا ولا رحمة، والله - سبحانه – يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته فى هذا التحذير وذلك النذير، وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور !.
إنه – سبحانه – يمهل ولا يهمل، ويملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سننه التى قدرها بمشيئته، ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم " فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث " (القلم: 44)، وخل بينى وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان، فسأملى لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله، ويحذر اعداءه.. ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب ".
فلا تفرح – أخى فى الله – بالكرم بعد المعصية، وكن مميزا بين العطية والبلية وبين النعمة والنقمة، ولذا قال سبحانه وتعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " (الحديد: 23)، تقول زوجة سعيد بن عامر الجمحى: استيقظت يوما على صوته وهو يقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، فقمت فوجدت بين يديه سرة مال وهو يدفعها بيده كأنها عقرب، قلت: مالك، قال: " دخلت علىّ الدنيا لتفسد علىّ دينى ".
نعم – إخوتاه –: لابد أن يكون لديك بصيرة وتمييز بين ما ينفعك وما يضرك فى آخرتك، فإذا أعطاك الله نعمة واستعملتها فى طاعته كانت نعمة، وإذا استعملتها فى المعصية كانت محنة وفتنة.. أعطاك الله مالا: هل هذا المال زادك قربا أم أبعدك؟!.. أعطاك زوجة أعانتك على طاعته، فهذه نعمة، ولو شغلتك عن الله كانت فتنة.
فانظر كل لحظة فى حياتك لترى النعم التى وهبها الله لك: هل تقربك منه أم تبعدك عنه؟.. هل هى نعم أم نقم؟.. هل توقفك بين يدى الله أم تشغلك عنه؟.. تزيدك إيمانا أم تقسى قلبك؟.. تزيدك شكرا أم طمعا؟!.
قف مع نعم الله لتعلم أين قدمك.. لتعلم أين أنت.. فى طريق الوصول أم تائه فى طرق أخرى؟.. فرق بين النعمة والنقمة.. وبين المحنة والمنحة.. وبين البلية والعطية.. وبين الحجة والمنة.. ميز لتعرف أين الفتنة لتجتنبها فتصل إلى الله بسلام.
* * *
مختارات