فقه الحياة العالية - الجزء الاول
فقه الحياة العالية
قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}... [الأنعام: 122].
وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
الوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].
وسمي الوحي روحاً: لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله سبحانه وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له،
ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.
ولكل عبد روحان:
روح يحيي بها الله قلب من شاء من عباده.. وروح يحيا بها البدن.. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته.
قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}... [النحل: 97].
فالحياة الطيبة حياة القلب ونعيمه.. وبهجته وسروره بالإيمان بالله ومعرفته ومحبته.. والإنابة إليه.. والتوكل عليه.
فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، وهي منقادة له.
والحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث:
في دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار في الجنة.
والمعيشة الضنك تكون كذلك في الدور الثلاث:
في دار الدنيا.. ودار البرزخ.. ودار القرار في النار.
فكل من جمع بين الإيمان والعمل الصالح أحياه الله حياة طيبة في الدنيا بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ورَزَقه رزقاً طيباً من حيث لا يحتسب، وجزاه في الآخرة بالجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
فيؤتيه الله بفضله ومنِّه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة.
والحياة ضد الموت، ومراتب الحياة عشر:
الأولى: حياة الأرض بالنبات كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} [النحل: 65].
الثانية: حياة النمو والاغتذاء، وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30].
الثالثة: حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه، وهي إحساسه وحركته، وهذه الحياة فوق حياة النبات، وهي متفاوتة، وتقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله.
الرابعة: حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة، وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها، فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي.
ولهذا لا يلحقها كلال، ولا فتور، ولا نوم، ولا إعياء كما قال سبحانه عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].
الخامسة: حياة العلم من موت الجهل:
فالجهل موت لأصحابه، والجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض.
وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة.
السادسة: حياة الإرادة والهمة:
فضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى.
وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياته.
وحياة القلب: بدوام الذكر لله، وترك الذنوب.
فكما جعل الله حياة البدن بالطعام الطيب، وتجنب الخبيث، جعل حياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب والمعاصيِ.
والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات، يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت.
وعلامة موت القلب: إذا كان لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يرغب في الطاعات، ولا يبالي بالمحرمات.
والمؤمن حقاً: هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح.
وإذا مات المؤمن موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة التي حصلت به بعد موته.
السابعة: حياة الأخلاق العالية، والصفات المحمودة، التي هي حياة راسخة للموصوف بها.
فحياة مَنن قد طُبع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك.
وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم.
والحياء مشتق من الحياة، وأكمل الناس حياة أكملهم حياء، فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها.
وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة.
لذلك كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الذكي الفطن أكمل من حياة البليد.
ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكمل الناس حياة، حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلي أجسامهم؛ لكمال أخلاقهم وتقواهم.
الثامنة: حياة الفرح والسرور وقرة العين بالله:
وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وأكثرهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها، بل تقطعه عنها إلا أقل القليل.
وحرمها أكثرهم، وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والبصيرة.
وهذه المرتبة أعلى مراتب الحياة، ولكن كيف يصل إليها من عقله سُببي في بلاد الشهوات، وأَمَله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوإ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمة المحب وطاعته تتكرر وتتزايد حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وإذا تعلقت روحه بحبيبه عمل بما يحب، فهو يتقرب إلى ربه حفظاً لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له.
فيتقرب إلى ربه بأنواع التقرب إليه:
فقلبه للمحبة، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتعظيم.
ولسانه للذكر والحمد وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطاعات، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه.
فَيَشرع المحب أولاً في التقرب بالأعمال الصالحة الظاهرة.. ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه.. ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان.. فيعبد الله كأنه يراه.. فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط.
ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (1).
وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه.
وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض.
وملاك هذا الأمر: التقرب والانبعاث بالكلية إلى الحبيب وما يحب، ولا يزال العبد رابحاً على ربه أفضل مما قدم له.
وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات.
التاسعة: حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان:
وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً وراحة، نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك.
ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ومفارقة الرفيق المؤذي النكد، الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلاً عن مخالطته وعشرته.
والنفس لإلفها هذا السجن الضيق النكد زماناً طويلاً تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد، وتستوحش إذا استشعرت مفارقته.
ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والأمن والخصب والسرور صبر في طريقه على كل مشقة، ومن قدم على الملك وجاءه بما يحبه أكرمه، ومن جاءه بما يسخطه عاقبه عليه.
العاشرة: الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم وذهاب أهلها إلى دار الحيوان:
وهي الحياة التي شمر إليها المشمرون، وسابق إليها المتسابقون، والتي يقول من فاته الاستعداد لها: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: 24 - 26].
والحياة السابقة كالنوم بالنسبة لهذه الحياة.
وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة.. فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟.. فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم عزَّ وجلّ َكرة وعشياً، ويسمعون كلامه كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» متفق عليه
مختارات