" التَّعْسِيـــر "
" التَّعْسِيـــر "
ذَمُّ التَّعْسِير والنَّهي عنه:
#### أولًا: مِن القرآن الكريم:
- قال تعالى: " وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " [البقرة: 280].
قال ابن كثير: (قوله: " وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ": يأمر تعالى بالصَّبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، فقال: " وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ " أي: لا كما كان أهل الجاهليَّة يقول أحدهم لمدِينه إذا حلَّ عليه الدَّين: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تُرْبِي، ثمَّ يندب إلى الوضع عنه، ويَعِدُ على ذلك الخير والثَّواب الجزيل، فقال: " وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " أي: وأن تتركوا رأس المال بالكليِّة وتضعوه عن المدِين) [تفسير القرآن العظيم].
#### ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة:
- عن عبد الله بن أبي قتادة، أنَّ أبا قتادة، طلب غريمًا له، فتوارى عنه ثم وجده، فقال: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله؟ قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفِّس عن معسر، أو يضع عنه) [رواه مسلم].
(أي: ليؤخر مطالبة الدين عن المدين المعسر، وقيل: معناه يفرج عنه، أو يضع عنه، أي: يحط عنه، وهذا مقتبس من مشكاة قوله تعالى: " وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ " ) [دليل الفالحين،لمحمد على البكري الصديقى].
قال القاري: (فلينفِّس - بتشديد الفاء المكسورة - أي: فليؤخِّر مطالبته عن مُعْسِر، أي: إلى مدَّة يجد مالًا فيها، أو يضع - بالجزم - أي: يحطُّ ويترك عنه - أي عن المعْسِر - كلَّه أو بعضه، فائدة الفرض أفضل مِن النَّفل بسبعين درجة إلَّا في مسائل. الأَوْلَى إبراء المعْسِر مندوب وهو أفضل من إنظاره) [مرقاة المفاتيح،لملا على القارى].
- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان تاجر يُدَاين النَّاس، فإذا رأى مُعْسِرًا، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز الله عنه) [رواه البخارى ومسلم].
قال النَّووي: (والتَّجاوز والتَّجوُّز معناهما المسَامَحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، كما قال: وأتجوَّز في السِّكة، وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعْسِر والوضع عنه، إمَّا كلَّ الدَّين، وإمَّا بعضه مِن كثيرٍ أو قليلٍ، وفضل المسَامَحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء، سواء استوفى مِن مُوسِر أو مُعْسِر، وفضل الوضع مِن الدَّين، وأنَّه لا يحتقر شيء مِن أفعال الخير، فلعلَّه سبب السَّعادة والرَّحمة،وفيه جواز توكيل العبيد، والإذن لهم في التَّصرُّف) [شرح النووى على مسلم].
#### أقوال السَّلف والعلماء في التَّعْسِير:
- عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه قال: (آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدَّرداء، فزار سلمان أبا الدَّرداء، فرأى أمَّ الدَّرداء متبذِّلةً، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدَّرداء ليس له حاجة في الدُّنيا، فجاء أبو الدَّرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل، فلمَّا كان اللَّيل ذهب أبو الدَّرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام، ثمَّ ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلمَّا كان مِن آخر اللَّيل قال سلمان: قُم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) [رواه البخارى].
- كان أبو موسى يشدِّد في البول، ويبول في قارورة، ويقول: إنَّ بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدِهم بولٌ، قرضه بالمقاريض، فقال حذيفة: (لوددت أنَّ صاحبكم لا يشدِّد هذا التَّشديد، فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سُبَاطَة خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه، فأشار إليِّ فجئت، فقمت عند عقبه حتى فرغ) [رواه البخارى ومسلم واللفظ له].
- وقال ابن القيِّم: (11) (لـمَّا ذكر شيئًا مِن مكائد الشَّيطان، قال بعض السَّلف: ما أمر الله تعالى بأمرٍ إلَّا وللشَّيطان فيه نزغتان، إمَّا إلى تفريط وتقصير، وإمَّا إلى مجاوزةٍ وغلوٍّ، ولا يبالي بأيِّها ظَفَر، وقد اقتطع أكثر النَّاس - إلَّا القليل - في هذين الواديين: وادي التَّقصير، ووادي المجاوزة والتَّعدِّي،والقليل منهم الثَّابت على الصِّراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه) [إغاثة اللهفان].
- وقال ابن حجر: (لا يتعمَّق أحدٌ في الأعمال الدِّينيَّة، ويترك الرِّفق إلَّا عجز وانقطع، فيُغْلَب) [فتح البارى].
#### من آثار التَّعْسِير:
1- من أكبر المضار وأولاها بالذكر هي أنَّ من كانت صفته التعسير يعتبر مخالفًا لأمر الله، بعيدًا عن شرعه، فالله تبارك وتعالى قد أمر بالتيسير على العباد، والتسهيل في التعامل معهم.
2- قد يدفع به إلى تصرفات غير لائقة، قد تضره في دينه أو دنياه، فقد يفعل المعسر أعمالًا محرمة، وأفعالًا مشينة، والداعي هو التعسير، فقد يضطره إلى السرقة أو النصب أو الاحتيال، بغرض فك عسرته، ودفع الحرج عنه.
3- زرع بذور البغض والكراهية في الصدور، فتظهر في واقع الناس، فيتحول المجتمع إلى مجتمع يتصف بالنفرة والتجافي، يكره بعضه بعضًا، ويحقد بعضه على بعض، فالتعسير نازع لأواصر المحبَّة، قاطع لحبالها، فكم من معسر بتعسيره فارق أصحابه وأحبابه، بل إخوانه وأهله، والعكس بالعكس، فما يسر ميسر إلا صار تيسيره رحمًا بينه وبين من يسر في معاملتهم.
#### من صور التَّعْسِير:
للتَّعْسِير صورٌ كثيرةٌ، أهمُّها ما يلي:
1- التَّعْسِير على المدِين عند تأخُّره عن قضاء الدَّين -لعدم مقدرته - وعدم إنظاره، ويخرج مِن هذه الصُّورة: أن يكون المدِين قادرًا على الإعطاء، ومع ذلك يمتنع عن دفع دَيْنِه، فيجوز للدَّائن عندئذ شكايته لولي الأمر- أو مَن ينوب عنه - لأخذ ماله عَنْوَة، لذا قال صلى الله عليه وسلم: (مَطْل الغنيِّ ظُلْمٌ) [رواه البخارى ومسلم].
2- التَّعْسِير في النَّفقة، وهي تضييق الرَّجل على أهله في النفقة، ولها حالتان:
أولًا: إذا كان هذا بغير اختياره فلا شيء عليه، كما قال تعالى: " لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا " [الطَّلاق: 7].
ثانيًا: إذا كان هذا باختياره - مع مقدرته على الإنفاق عليهم بما يسدُّ حاجتهم - فيحرم عليه، كما قال تعالى: " وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ " [الطَّلاق: 6].
3- التَّعْسِير مع الأجير: بعدم إعطائه حقَّه كاملًا، أو ببخسه.
4- التَّعْسِير على مَن أراد النِّكاح بالمغالاة في مهور النِّكاح، بل واشتراط بعض الشُّروط الخارجة عن المهر: كحجز قاعة لإقامة العرس، وغيره ممَّا يدفع الشَّباب للعزوف عن النِّكاح.
5- التَّعْسِير على الفقير والمحتاج.
#### من أسباب الوقوع في التَّعْسِير:
1- مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتيسير.
2 – حب الدنيا، والتعلق بالمال، دون النظر إلى الغير أو مراعاتهم، أو تقدير ظروفهم.
3- الجهل بعواقبه الدنيوية والأخروية، والجهل بما يجنيه التيسير من مكاسب وفوائد.
4- ضعف الإيمان، وقلة الدين، والبعد عن مواطن الخير.
5 – مجالسة من يتخلقون به، فمن جالس جانس، وصاحب الأخلاق الرديئة يعدي كما يعدي الأجرب.
6- سوء التربية، فمن تربى في مجتمع يسوده التشديد في الأمور، والتعسير، فسينشأ على هذا الخلق ويعتاده.
#### من الوسائل المعينة على ترك التَّعْسِير:
1- أن يطلع المرء على المكاسب التي سيجنيها الميسر، في الأجلين القريب والبعيد، كما يطلع على المضار التي قد يتسبب فيها بتعسيره وتشديده.
2- تربية الأبناء على التيسير في الأمور، والسهولة في المعاملة، وإنظار المعسرين، وبهذا ينشئ الناشئ على هذا الخلق، ومن ثم يصبح سجية له، وطبعًا.
3- البعد عمن جعل هذه الخلق ديدنه ومجافاته وهجره وفي هذا فائدة للطرفين فالأول سلمت له أخلاقه، فلم تصبه لوثة من الأخلاق الرديئة والثاني ربما يرتدع ويعرف أن ما هو واقع فيه من التعسير والتشدد أمر مذموم.
4- تقوية الإيمان سبب لترك جميع الأخلاق السيئة، فمن قوي إيمانه اتصف بما هو أهل له من أخلاق المؤمنين، وترك ما يخالفها.
5- الاقتصاد في العبادة، وفي الحديث: (عليكم من الأعمال ما تطيقون) [رواه مسلم].
#### التفريق بين طلب الأكمل في العبادة والتنطع فيها:
عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء مِن الدُّلجة) [رواه البخارى واللفظ له ومسلم].
قال ابن المنِير: (في هذا الحديث عَلَمٌ مِن أعلام النُّبوَّة؛ فقد رأينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كلَّ متنطِّعٍ في الدِّين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه مِن الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملَال أو المبالغة في التَّطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلِّي اللَّيل كلَّه، ويُغَالِب النَّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللَّيل، فنام عن صلاة الصُّبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشَّمس فخرج وقت الفريضة) [فتح البارى،لابن حجر].
مختارات