الصبر
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فإن الله جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً حصيناً لا يُهدم،وهو مطيّة لا يضل راكبها فهو والنصر أخوان شقيقان،فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه، فحال الإنسان إما بين صبر على أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقاً، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير، والرجل والمرأة، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجئون وبه ينطلقون.
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر)،إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم،وذكر الصبر في نحو تسعين موضعاً من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.
إن للصابرين معيّة مع الله، ظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة، وجعل الله سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (بالصبر واليقين ؛ تُنال الإمامة في الدين).
تعريف الصبر
الصبر لغة: الحبس والكف، قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، يعني احبس نفسك معهم، والصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما، ويقال صبر يصبر صبراً، وصبَر نفسه.
والصبر في الاصطلاح الشرعي: حبس النفس على فعل شيء أراده الله أو عن فعل شيء نهى الله عنه فهو صبر على شيء أمر به الله وصبر عن شيء نهى الله عنه، جعل الله فيه الأجر العظيم لمن أراد به وجهه، وكافأ أهل الجنة لأنهم صبروا ابتغاء وجه ربهم، والصبر فيه معنى المنع والشدة والضنّ، و تصبّر رجل يعني تكلّف الصبر وجاهد نفسه عليه وحمل نفسه على هذا الخلق، وصبّرها إذا حملها على الصبر وهو ثبات على الدين إذا جاء باعث الشهوات، وهو ثبات على الكتاب والسنة، لأن من أخذ بهما فقد صبر على المصائب وصبر على العبادات وصبر على اجتناب المحرمات، فهذه أنواع الصبر الثلاثة إذاً:
1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن معصية الله.
3- صبر على أقدار الله المؤلمة.
هذا الصبر علّق القرآن الفلاح عليه فقال الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، فعلّق الفلاح بمجموع هذه الأمور،ونهى عن ما يضاد الصبر فقال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرُسل ولا تستعجل لهم }، كما قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا}، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن مضاعفة الأجر للصابرين: { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}، وإذا كانت الأعمال لها أجر معلوم محدود فإن الصبر أجره لا حد له، قال تعالى: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، قال سليمان بن القاسم:كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر لأجل هذه الآية{إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، قال: كالماء المنهمر، وعلق الله الإمامة في الدين على الصبر وعلى اليقين كما مرّ في الآية،وجعل الله الظفر بمعية الصبر فقال: { إن الله مع الصابرين}، وجعل للصابرين أموراً ثلاثة لم يجعلها لغيرهم، وهي الصلاة منه والرحمة والهداية{وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وجعل الصبر سبحانه وتعالى عوناً وعدة وأمر بالاستعانة به، فقال:{واستعينوا بالصبر والصلاة }، فمن لا صبر له؛ لا عون له، وعلّق النصر على الصبر والتقوى فقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}، وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر)،وجعل سبحانه الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فقال:{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً}، وأخبر أن ملائكته تسلّم في الجنة على الصابرين فقال: {سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وجعل الله الصبر منزلة فوق منزلة المعاقِب لمن عاقبه بمثل العقوبة فهو أفضل وأكثر أجراً فقال: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين}، فتأمل هذا التأكيد (لئن) اللام ولامٌ أخرى للتأكيد(لهو).
ورتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر مع العمل الصالح فقال:{إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}، وجعل الصبر على المصائب من عزم الأمور وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد فقال عز وجل:{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، وأوصى لقمان الرجل الصالح الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله:{يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.
ووعد الله المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم نالوها بالصبر فقال تعالى: {وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}.
وعلّق تعالى محبته بالصبر، وجعلها لأهل الصبر فقال: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}، وأخبر عن خصال من الخير لا يلقاها إلا الصابرون فقال تعالى في أهل العلم الذين علموا قومهم المفتونين بقارون: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}، وعند الدفع بالتي هي أحسن{ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}، وأخبر أنه لا ينتفع بآياته ولا يستفيد منها إلا صاحب الصبر المكثر منه فأتى به بصيغة المبالغة في قوله تعالى:{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور}، وفي سورة لقمان قال: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، وبعد قصة سبأ قال:{فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، وفي ذكر النعمة بالسفن على العباد تنقل أنفسهم وبضائعهم قال: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، فهذه أربع مواضع في القرآن الكريم تدل على أنه لا ينتفع بالآيات إلا أهل الصبر والشكر، الدين كله صبر وشكر، الإيمان نصفان صبر وشكر، حياة المسلم كلها صبر وشكر،ماذا يوجد في الطاعات والعبادات والتقرب إلى الله غير الصبر والشكر..؟!
وأثنى الله على عبده أيوب بأحسن الثناء لأنه صبر فقال: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب}، فمدحه بقوله نعم العبد لأنه صبر، وحكم الله بالخسران حكماً عاماً على من لم يكن من أهل الصبر فقال: {والعصر*إن الإنسان لفي خسر*إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، وخص الله أهل الميمنة(أصحاب اليمين) بأنهم أهل الصبر والمرحمة فقال تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان فقرنه بالصلاة فقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، وقرنه بالأعمال الصالحة فقال: { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات}، وقرنه بالتقوى فقال: {إنه من يتقِ ويصبر }، وقرنه بالتواصي بالحق فقال: { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، وقرنه بالرحمة فقال: { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، وقرنه باليقين فقال: { لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، وقرنه بالصدق فقال: { والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات}، فنعم المنزلة منزلة الصبر ونعم الخلق خلق الصبر ونعم أهله أهل الصبر، فالصبر طريق الجنة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
هذا الصبر العناية به في القرآن الكريم كبيرة جداً دليلاً على أهميته، دليلاً على أنه خلق عظيم:
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى الفرج
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلج
وقل من جد في أمر يحاوله
واستصحب الصـبر إلا فاز بالظفر
والصبر لدخول الجنة وسبب النجاة من النار، فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فكيف تدخل الجنة بدون صبر على المكاره؟، وكيف تقي نفسك النار بدون صبر عن الشهوات؟، وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المعنى اللطيف في هذا الحديث، حفت الجنة بالمكاره؛ علمنا أنه لا طريق للجنة إلا عبر المكاره، لأنه قال حُفّت، من جميع الجهات، فإذا ما ركبت المكاره لا تدخل الجنة، والمكاره هي ما تكرهه النفس من المجاهدة اللازمة لأداء العبادات(صلاة الفجر – الوضوء في البرد- الصبر على المصائب- الجهاد....)،فلا يمكن دخول الجنة إلا باختراق المكاره، ولا يمكن اختراقها إلا بالصبر، وأما النار فإنها حفت بالشهوات، ولا يمكن منع النفس من الدخول في النار إلا إذا صبر عن المعاصي وامتنع عن المعصية وحبس نفسه عن ذلك فهذه إذاً فضائل هذا الخلق الكريم.
ما حكم الصبر؟
أصل الصبر واجب، الصبر من حيث الجملة واجب، والله أمر به { واستعينوا بالصبر والصلاة}{اصبروا وصابروا}، ونهى عن ضده{ولا تستعجل لهم}{فلا تولوهم الأدبار}{ولا تبطلوا أعمالكم}، ورتب عليه خيري الدنيا والآخرة، لكن عندما نأتي إلى التفصيل فالصبر منه ما هو صبر واجب، يأثم الإنسان إذا لم يصبر ومنه ما هو صبر مستحب فهو واجب في الواجبات و واجب عن المحرمات و مستحب عن المكروهات و إذا صبر عن المستحب ولم يفعله فصبره مكروه، ومما يدل علىأن الصبر قد يكون لازماً قول الله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}،فهذا يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً كقوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، فما حكم الصبر هنا؟، أنت مخيّر بين أن تعاقب من عاقبك؟، ما الحكم الشرعي؟،يجوز لك القصاص فتنتقم منه بمثل ما ظلمك، ما حكم الصبر وعدم الانتقام؟، مستحب، فإذا ً لو قلت ما حكم الصبر على صلاة الفجر؟، واجب، ما حكم الصبر عند المصيبة بمنع النفس عن النياحة؟ واجب، ما حكم الصبر عن الانتقام ممن أساء إليك بمثل ما أساء؟ مستحب..
فالصبر إذاً منه ما يكون واجباً ومنه ما يكون مستحباً والصبر جاء في صيغة المفاعلة في القرآن فقال { وصابروا}، وهذه عادة ما تكون إلا بين طرفين {وصابروا}، فمعنى ذلك أن هناك مغالبات بين المسلم والعدو، وأننا لابد أن نصابر أنفسنا على باطلهم وعلى جهادهم وعلى مقاتلتهم ومرابطتنا في الثغور وثباتنا عليها حتى لا ينفذوا إلينا من هذه الجهات فهذا صبر مهم جداً..
الصبر نوعان:
1- بدني.
2- نفسي.
وكل منهما قسمان: اختياري واضطراري، فصارت القسمة أربعة..
1- بدني اختياري: تعاطي الأعمال الشاقة.
2- بدني اضطراري: الصبر على ألم الضرب، لأنه يضرب وماله حيلة إلا الصبر.
3- نفسي اختياري: صبر النفس عن فعل مالا يحسن شرعاً، مكروه مثلاً.
4- نفسي اضطراري:صبر النفس عن فقد المحبوب الذي حيل بينها وبينه بحيث لو لم تصبر هذا الصبر لوقعت في الجزع المحرم أو النياحة أو لطم الخدود أو شق الجيوب أو قص وحلق الشعور ونحو ذلك.
والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين ولكن الصبر الاختياري هو الذي يميز الإنسان عن البهيمة، فقال رجل من أهل الحكمة: (ما غلبني رجل كما غلبني شاب من مرو، قال لي مرة ما الصبر، قلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، قال: هذا ما تفعله كلاب مرو عندنا!، قلت فما الصبر عندكم؟ قال: إن فقدنا صبرنا وإن وجدنا آثرنا وأعطينا لغيرنا)، فإذاً هناك صبر تشارك فيه البهائم الإنسان ولكن هناك صبر يتفوق به المسلم الإنسان على البهيمة والدابة، وقد تجد من الكفار من يصبر على المصائب ويتجلد ولا ينهار ولكن لا يرجو من وراء ذلك جزاء من عند ربه ولا أجراً يوم القيامة..
وكذلك فإن الصبر متعلق بالتكليف لأن الله ابتلى العباد بواجبات لابد أن يفعلوها ومحرمات لابد أن يتركوها، وأقدار لابد أن يصبروا عليها،فلا يقعوا في الجزع والتسخط و شكوى الخالق إلى المخلوقين.
وقد ورد الصبر في السنة أيضاً في مواضع متعددة:
1- بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصبر على فقد عينيه بالجنة: (إن الله تعالى قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة) [رواه البخاري].
2- (ومال عبد مؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
3- لما مرضت الأمة السوداء بالصرع جاءت تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي، قال: (إن شئتِ صبرتي ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيكِ) فقالت: أصبر ولكن ادع الله لي ألا أتكشف. فدعا لها فكانت تصرع ولا تتكشف. [متفق عليه].
4- ورد في السنة ما يفيد أن الصبر خلق يمكن تحصيله، فهناك أناس جبلهم الله على الصبر وبعضهم جبله على قليل منه، فلو كان عند المرء نقص في هذا العمل من أعمال القلوب فيمكن تحصيله بالمران والرياضة النفسية والتدريب عليه والمجاهدة، فهو شيء ممكن اكتسابه وليس شيئاً فطرياً فقط لا يمكن الزيادة عليه، والدليل على أن الصبر خلق مكتسب وليس خلق فطري فقط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن يتصبّر يصبّره الله)، فقد يكون إنسان جزع بأصل طبعه لكن لما علم فضل الصبر وأجره وأهميته ومكانته في الدين قرر ألا يمر بحادث وموقف في حياته إلا ويستعمل الصبر ويجاهد نفسه عليه ويجبرها عليه حتى تصبح صبّارة.
5- بينت السنة أن الصبر للمؤمن خير عظيم، إذا أصابته ضراء يكون الخير له.
6- بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصبر ضياء، كما جاء في حديث مسلم فقال: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك).
7- لما مر النبي صلى الله عليه وسلم عند امرأة تبكي عند قبر فأراد أن يعظها فقال لها: (اتقي الله واصبري) قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه.فلما مضى صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجادل المرأة في هذه الحالة، وهذا هو الموقف الصحيح للداعية في مثل هذا الحال، فلما مضى صلى الله عليه وسلم قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت لأنه ردت عليه هذا الرد وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم فأتت بابه لتعتذر فلم تجد عنده بوابين ولا حرس من تواضعه فقالت معتذرة: لم أعرفك. فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).[رواه البخاري].
8- كذلك لما مات أبو سلمة، ماذا تقول أم سلمة وزوجها بهذه المكانة الكبيرة في نفسها، قالت ما تعلمته سابقاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، ولما مات زوجها وجاءت لتقول العبارة فقالت أي المسلمين خير من أبي سلمة؟بعدما رأت من حسن معشره وطيب خصاله،ولأنها مؤمنة قالت ما تعلمته، قالت: فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد خطبها وتزوجها.
9- وإذا صبر العبد على فقد الولد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم، قال قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي، فيقولون حمدك واسترجع، فقال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد). فلا يقبض لمؤمن صفي من أهل الأرض فيصبر ويحتسب إلا وكان له ثواب إلا الجنة.
10- كذلك فالناس يبتلون على حسب دينهم وعلى حسب صبرهم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً وعنده صبر قوي زيد له في البلاء ليزداد أجراً).يوم القيامة يود أهل العافية عندما يعطى أهل البلاء الثواب ويقسم عليهم، الذين صبروا في الدنيا،يتمنون لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بمقاريض..![الحديث في الترمذي وحسنه الألباني].
11- والنبي صلى الله عليه وسلم مما ورد في سنته أيضاً وعلّمنا إياه تمهيد نفسي للمواجهة: (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم). أيام الصبر هي أيا م الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر. المؤمنون في مكة ابتلوا فيأتي الصحابي فيأتي الصحابي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله لنا، ألا تستنصر لنا؟، فصبرهم صلى الله عليه وسلم بأنه كان من قبلهم كان الرجل يُحفر له في الأرض فيجاء بالمئشار فيوضع على رأسه فيشق اثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه وعصبه ما يصده ذلك عن دينه. فهناك مواقف والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، من دخله عصم..
الناس في الصبر أنواع وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه سبر نفوس الناس حسب ما رأى من الدين:
1- أهل الصبر والتقوى، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، صبروا على طاعته وصبروا على ترك محارمه.
2- ناس عندهم تقوى بلا صبر، فقد يكون هناك رجل عابد زاهد قوام صوام متصدق منفق ذاكر قانت لكن إذا نزلت به المصيبة ينهار، فعنده تقوى لكن إذا نزلت به مصيبة انهار. يقول ابن الجوزي: رأيت كبيراً قارب الثمانين كان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته فقال ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه لا يستجيب. فإذاً من الناس من عنده عبادة لكن لا يصبر ولا يتجلد ولا يقاوم عند المصيبة فينهار. بل إن أحد هؤلاء قال: عندي كذا أولاد لا أخشى عليهم إلا منه!- تعالى الله انظر إلى الكفر إذا وصل إلى درجات في هذا الباب، سوء ظنه بالله، ماذا تنفع الصلاة وهذه عقيدته التي في قلبه؟ {قل من يكلأكم بالليل والنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}-. إذاً الذي ليس عنده صبر لا تنفعه عبادته.
3- ناس لديهم صبر بلا تقوى. مثل الفجار لكنهم جلدين يصبرون على ما يصيبهم ككثير من اللصوص وقطاع الطرق يصبرون على الآلام والمشاق لنيل الحرام، وكذلك طلاب الرياسة والعلو، يصبرون على أنواع من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس.فهو من أجل أن يصل إلى هدفه يضيع صلوات ويأكل حرام ولا يبالي فعنده صبر بلا تقوى وغالب هؤلاء لا يرجون من الله جزاء على صبرهم، فالصبر لديهم خلق مفطورين عليه. ويوجد من الكفار من يتجلّد عند المصيبة فقد جاء مدح الروم في حديث عمرو بن العاص: (أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة)، تقع عليهم الكارثة فيستدركونها بسرعة، ومن تأمل ما حدث لهم وهم النصارى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كيف تهدمت بلادهم فما أسرع ما أعادوا بنائها و أعادوا مسيرة الاقتصاد و الإنتاج والزراعة والصناعة وقد مات منهم أكثر من 40 مليون.قال: وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من العشق، يصبرون على ما يهوونه من المحرمات من أنواع الأذى، فربما هذا المعشوق يجعل العاشق يتعذب من أجله ويشتغل لأجله ويحاول إرضائه بشتى الطرق، فعنده صبر ولكن بلا تقوى وهكذا..،وقد يصبر الرجل على ما يصيبه من مصائب كالمرض والفقر ولا يكون فيه تقوى إذا قدر، إذا قدر صار جباراً شقياً.
4- وهو شر الأقسام، لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}.
مراتب الصبر
والصبر مراتب فالصبر على طاعة الله أعلى منزلة من الصبر عن المعاصي والصبر عن المعاصي أعلى منزلة من الصبر على الأقدار. فالصبر على الواجبات أعلى أنواع الصبر لأن جنس فعل الواجبات أعلى درجة عند الله من جنس ترك المحرمات، وأجر ترك المحرمات أكبر من أجر الصبر على المصائب، لأن الصبر على الواجب والصبر على ترك الحرام عملية اختيارية، لكن لما نزلت به المصيبة، شيء بدون اختياره، ليس له إلا كف النفس والصبر. فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يوسف عليه السلام: " كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها الذي دعته إليه من الحرام أكمل من صبره على إلقاء أخوته له في الجبّ "، فصبره على الفاحشة أكمل وأعظم وأكثر أجراً من صبره على السجن وإلقاء أخوته له لأن الأول فيه شيءاختياري وصبره عليها صبر رضا ومحاربة للنفس لا سيما مع وجود الأسباب القوية المزينة للحرام فكان شاباً أعزباً وغريباً عند البلد و عبداً مملوكاً والمرأة جميلة وصاحبة منصب وهي التي دعته فسقطت الحواجز النفسية ثم استعانت عليه بكيد النسوة وهددته بالسجن، ثم إن زوجها ليست عنده غيرة {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك}، وغُلّقت الأبواب وغاب الرقيب، فصار داعي الزنا قوي جداً جداً ولكنه صبر عليه الصلاة و السلام،أما الأمور الأخرى من السجن وإلقاء أخوته له في الجبّ فجرت عليه بغير اختياره ولا كسب له فيها.
مجالات الصبر
1- الصبر على بلاء الدنيا {لقد خلقنا الإنسان في كبد} مشقة وعناء وبلاء وفتن، والله تعالى قال:{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.
2- الصبر على مشتهيات النفس {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }، ولذلك قال بعض السلف: " ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر..! ".وقالوا: " البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صدّيق ". والصبر على مشتهيات النفس لابدّ أن يكون من وجوه أربعة كما قال ابن القيم رحمه الله:
1- أن لا يركن إليها ولا يغترّ بها.
2- أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها.
3- أن يصبر على أداء حق الله فيها.
4- أن لا يصرفها في حرام.
3- الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين، وعن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين، فبعض قوم قارون ما صبروا فقالوا: {ياليت لنا مثل ما أوتي قارون}، والله تعالى قال: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه}، { إنما أعطيناهم لنفتنهم ورزق ربك خيرٌ وأبقى}.
4- الصبر على طاعة الله، وهذا أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس{ فاعبده واصطبر لعبادته}، اصطبر أكمل وأبلغ من اصبر فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} على الصلاة وعلى أمر الزوجة بالصلاة، والصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
أ- قبل الطاعة بتصحيح النية وطرد شوائب الرياء.
ب- حال الطاعة أن لا تغفل عن الله فيها ولا تتكاسل عن أدائها وتراعي واجباتها وأركانها والخشوع في الصلاة.
ج- بعد الفراغ منها بأن لا تفشي ما عملت وتُعجَب به وتُسَمّع به في المجالس{لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، {ولا تبطلوا أعمالكم}.
5- الصبر على مشاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه غير خافٍ على الدعاة حال الناس اليوم من البعد عن الدين و البعد هذا يستلزم دعوة كبيرة وإنكاراً للمنكرات وصدع بالحق، عمر بن عبد العزيز لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال: " إني أعاجل أمراً لا يعين عليه إلا الله "..!.فنوح عليه السلام صبر هذا الصبر العظيم في الدعوة 950 سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً على جميع أنواع الابتلاءات {دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً }، وهكذا سراً وجهاراً ماترك فرصة إلا قام بالدعوة، ثم الدعوة ليست عملية سهلة لأن الإنسان يجد كيد من الأعداء وحسد حتى من الناس الذين يظنهم معهم والقريبين منه على ما آتاه الله من فضله فيتمنون أن يوقع به ويضر ويتوقف ولذلك لابد للداعية أن يصبر في الداخل والخارج، القريبين والبعيدين، مع الناس الذين هم ضده علناً أو الذين يضمرون له الشر في داخل أنفسهم، {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً }، والحل..{وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}، { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً}، الرسل كان من رأس مالهم وبضاعتهم الصبر على إيذاء أقوامهم بل أكّدوا على ذلك وقالت الرسل لأقوامهم: { ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}، {ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا }، وهكذا يصبر الداعية على طول الطريق وعقباته وبطء النصر وتأخره، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}{ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.
6- إن هناك صبراً حين البأس وفي الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفين فيكون الصبر شرط للنصر والفرار كبيرة ولذلك أوجب الله الثبات{إذا لقيتم فئة فاثبتوا} وحذر من الفرار وتولي الأدبار وعندما تضطرب المعركة وينفرط العقد فيكون الصبر أشد {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً}، وحدثنا الله عن الثلة المؤمنة البقية الباقية بعد عمليات الترشيح المستمرة في قصة طالوت، {إن الله مبتليكم بنهر}وعصوه من قبل ومن بعد وما بقي معه إلا قليل، {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه}، حتى الذين جاوزا النهر كان بعضهم استسلاميين فقالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، لذلك كان المسلمون صُبُر عند اللقاء، يصبرون وكانوا يتناقلون بينهم عبارة " إنما النصر صبرُ ساعة "، والمراغمة والمدافعة الآن بين فريقين، الذي يصبر أكثر هو الذي ينتصر، فأوصى الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من ضرر الناس وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن}، فالصبر يكون أحياناً للمعلم على أذى التلميذ، للداعية على أذى المدعوّ، للمربي على أذى المتربي وهكذا..، ولذلك يقول الخضر لموسى:{إنك لن تستطيع معي صبراً*وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا}، فتعهّد وقال:{ستجدني إن شاء الله صابراً}، تعهد ولكنه لم يستطع أن يصبر في تلك المواقف، فإذاً الصبر له مواقف ومواطن وحالات ومجالات ينبغي علينا أن نكون من الصابرين لله فيها...
ماهي الأسباب المعينة على الصبر؟
1- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا وما جُبِلت عليه من المشقة والعناء وأن الله خلق الإنسان في كبد وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه وأن الآلام والتنغيص من طبيعة هذه الدنيا والابتلاءات{ولنبلونّكم}..
#### جبلت على كدرٍ وأنت تريدها
صفو من الآلام والأكدار #### ومكلف الأيام ضد طباعها
متقلب في الماء جذوة نار ومن لا يعرف هذه الحقيقة سيتفاجأ بالأحداث، أما الذي يعرف طبيعة الحياة الدنيا إذا حصل له أي ابتلاء ومنغصات فإن الأمر عنده يهون.
2- الإيمان بأن الدنيا كلها ملك لله تعالى، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، {ومابكم من نعمة فمن الله}، ولذلك الإنسان إذا حرم من شيء وابتلي يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، لا يوجد كلمة أبلغ في علاج المصاب وأنفع له عند المصيبة من تذكير العبد نفسه بهذين الأصلين. والدنيا فانية، والعبد وأهله وماله ملك لله، والمال وأولاده جعلوا عنده عاريّة، وصاحب العارية متى ما شاء استردها، ومصير الناس العودة إلى الله سبحانه وتعالى. وأم سليم لما فقهت هذا كان لها مع أبي طلحة ذلك الموقف المشهور فلما مات ولده الذي يحبه فقالت: (يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟)قال: لا..إن العارية مؤداة، قالت: (إن الله أعارنا فلاناً – ولدنا- ثم أخذه منا) فاسترجع..
3- معرفة الجزاء والثواب على هذا الصبر.. وقد تقدم ذكر شيء من هذا.. {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}، يوفون أجرهم بغير حساب..
4- الثقة بحصول الفرج، والله جعل مع كل عسر يسرين رحمة منه عزوجل {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً}، العسر معرفة بأل، و يسر نكرة، فالعسر هو نفسه و يسر يسر ٌثانٍ، ولن يغلب عسرٌ يسرين. والله تعالى جعل اليسر مع العسر وليس بعده، ولذلك فالله ينزل المعونة على قدر البلاء، والله لا يخلف الميعاد، {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون}، والفجر ينبلج ولو بعد ليل طويل..
اشتدي يا أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
يعقوب صبر على فقد يوسف والولد الثاني، وقال: { فصبر جميل} لا تسخّط فيه ولا جزع، وقال: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً}، فبعض الناس يصبرون صبراً غير جميل، والصبر الجميل ليس فيه تشكّي للمخلوقين،{إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله} وليس إليكم.
5- الاستعانة بالله تعالى واللجوء إلى حماه وطلبة معونته سبحانه،قالها موسى لقومه: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}، وحاجة الصابرين إلى الاستعانة عظيمة جداً ولذلك كان التوكل جانباً للمعونة من الله { إلا الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}.
6- الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم ما يعين على الصبر، وأن يعلم العبد أن قضاء الله نافذ وأن يستسلم لما قضاه وقدره مما لا حيلة له به، {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }، ثم إن العبد يعلم أن الجزع والهلع والتبرم والاعتراض والتشكّي والتضجر لا يجدي شيئاً ولا يعيد مفقوداً فلا حلّ إلا بالصبر، والعاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد سبعة أيام..!، أي يستسلم.
آفات في طريق الصبر
1- قضية الاستعجال {خلق الإنسان من عجل}، الإنسان يجب أن يصبر ويتأنى والثمرة تأتي ولو بعد حين..، {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}..لقد باءت دعوات بالفشل.. لماذا؟.. لأن أصحابها لم يصبروا..
2- الغضب ينافي الصبر، ولذلك لما خرج يونس مغاضباً قومه ابتلاه الله بالحوت، فتعلم الصبر في بطن الحوت{ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت}..، ولولا أنه كان من المسبّحين قبل أن يبتلعه الحوت للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، لذلك العبادة في وقت الرخاء تجلب الفرج في وقت الشدة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ولذلك لما نادى يونس في بطن الحوت؛ عرفت الملائكة صوته لأنها كانت تسمعه وهو يذكر الله في حال الرخاء..
3- اليأس أعظم عوائق الصبر، ولذلك حذر يعقوب أولاده منه {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله}.{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}، {والله معكم ولن يتركم أعمالكم}، إذاً إضاءة شمعة الأمل دواء اليأس والاستعانة بالله هي الأمل، لأن الله لا يخيب ولا يضيع من رجاه ويأتي الفرج ولو بعد حين..
التأمل في قصص الصابرين من أعظم الأسباب المعينة على الصبر:
فهذا نوحٌ عليه السلام صبر في دعوته لقومه صبراً عظيماً دام ألف سنة إلا خمسين عاماً جاهد ودعوة، وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر حتى قالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}، وصبر..
إبراهيم تعرض لمحنة عظيمة ويصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال: {حسبي الله ونعم الوكيل}، حتى لما أُمِر بذبح ولده صبر وهمّ بذبح الولد، وأخذ السكين وأضطجع الولد استسلاماً لأمر الله، والله ابتلاه بهذا الأمر فصبر.
وموسى واجه التهديد والإيذاء من قومه وقوم فرعون قبلهم، فصبر على دعوة قومين!.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لما تذكرأخيه موسى: { يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.
إبراهيم لما أُمِر بترك ولده وهو حديث عهد ولادة، وقد كان عقيماً، جاءه اسماعيل بعد سنوات طويلة جداً وهو شيخ كبير، وجاءه الأمر من الله اتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع!، مانال الخليل هذه المرتبة من شيء قليل، فمضى ولم يلتفت ولم يتحسر ولم يتردد، حتى قالت هاجر: لمن تتركنا؟آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فرجع للشام ورزقه الله من سارة بإسحاق ومن ورائه يعقوب.
وعيسى عانى من بني إسرائيل من التهم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه وصبر حتى رفعه الله إليه.
وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كم تعرض للأذى والاضطهاد، قالوا عنه مجنون ساحر كذاب خائن، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب،أشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يتهم بالخيانة، وأشد شيء على المؤمن أن يقال عنه شاعر ساحر به جنّة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم، ووضعوا الشوك وأخرجوه من بلده، وذهب للطائف يعرض نفسه على القبائل، وأحسّ بالاضطهاد وخرج من مكة لا يدري من الهم لم يستفق إلى في قرن الثعالب، حتى تآمروا على قتله{ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}، وقتلوا بعض أصحابه وعذبوا بعضهم، وأشد شيء على النبي أن يرى أتباعه يضطهدون ويقتلون أمامه، يمر عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وهكذا صبر صلى الله عليه وسلم حتى أتاه اليقين من ربّه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة حتى لما ذهب المدينة لا يُظَنّ أن مجالات الصبر قد خفّت لأنه عانى من المنافقين معاناة عظيمة، يكفي حادثة الإفك، وصبر على كيد اليهود، ووضعوا له السم، وكانت نوبات الحمى تنتابه حتى مات في آخر نوبة منها فكان في ذلك أجله وهكذا أصحابه، بلال، سمية،صهيب،عمار، مقداد، أبو بكر، صهروهم في الشمس وعذبوهم..
وهذا الصحابي خبيب، يسجن ليقتل ويصلب..
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
المرأة التي قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في يوم أحد فصبرت على ما حصل لها من هذه الأقدار، فماتوا في رفعة الدين ونصرة الدين وجهاد الكفار، وهكذا سار على هذا المنوال التابعون وتابعو التابعين..
عروة بن الزبير من أفاضل التابعين وأخيار التابعين، كان له ولد اسمه محمد من أحسن الناس وجهاً، دخل على الوليد في ثياب جميلة فقال الوليد:هكذا تكون فتيان قريش، ولا دعا بالبركة فقالوا أنه أصابه بالعين،خرج هذا محمد بن عروة بن الزبير من المجلس فوقع في اصطبل للدواب فلا زالت الدواب تطأه حتى مات، ثم مباشرة وقعت الآكلة(الغرغرينا)في رجل عروة وقالوا لابد من نشرها بالمنشار وقطعها حتى لا تسري لأماكن الجسد فيهلك، فنشروها فلما وصل المنشار إلى القصبة(وط الساق) وضع رأسه على الوسادة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدّر من وجهه وهو يهلل ويكبّر ويذكر الله، فأخذها وجعل يقلبها ويقبلها في يده وقال: (أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله)، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت وأمر بها أن تقدم إلى المقبرة، لما جاء من السفر بعد أن بترت رجله وفقد ولده قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ولما قالوا: نسقيك شيئاً يزيل عقلك؟قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، ورفض.
أبوقلابة ممن ابتلي في بدنه ودينه،وأريدعلى القضاء وهرب إلى الشام فمات بعريضة وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك حامد شاكر.
أحمد بن بنصر الخزاعي من كبار علماء السلف كان قوالاً بالحق آمراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر،ثبت في محنة خلق القرآن، حملوه إلى سامراء فجلس مقيداً وعرض عليه الرجوع عن القول بأن القرآن كلام الله المنزل وعرض عليه القول بخلق القرآن فرفض، وقاموا عليه بحرب نفسية وجسدية..، فيقوم القاضي عند خليفة السوء فيقول إنه حلال الدم، ووافقه من كان حاضراً، وأحمد بن أبي دؤاد قال شيخ كبير، يتظاهر بالشفقة عليه، فقال الخليفة:ما أراه إلا مؤدياً لكفره فأخذ السيف وقال إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر..!، فضرب به عنقه بعد أن مدوا رأسه بحبل، ونصب رأسه بالجانب الشرقي من بغداد، يقول أحد أهل العلم جعفر بن محمد الصائغ رأيت أحمد بن نصر الخزاعي حين قُتِل قال رأسه لا إله إلا الله وهذا من كراماته رحمه الله، قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: جاد بنفسه في سبيل الله.
والإمام أحمد نفسه كيف صبر في محنة خلق القرآن؟، حُمِل هو ومحمد بن نوح وهو شاب وليس عالماً لكن صبر مع الإمام أحمد، فحُمِل إلى المأمون، يشاء الله أن محمد بن نوح يمرض ويوصي الإمام أحمد: أنت إمام وأنا أموت ولا أحد يأبه لي، فاصبر..، ويموت محمد في الطريق، ويؤخذ الإمام أحمد رحمه الله مقيد، ودخل عليه بعض الناس قبل الدخول على الخليفة (هناك أحاديث في التقية والمرء عند الشدة يمكن أن يورِّي حتى تمضي العاصفة)، قال: كيف تصنعون بحديث خبّاب؟ إنه من كان قبلكم يُنشَر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه فيئسوا منه وتركوه، وقال اللهم لا تريني وجه المأمون،فمات المأمون قبل أن يصل أحمد، ووصل الخليفة الذي بعده والمحنة مازالت مستمرة، فيقول له: يا أحمد إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف ولكن يضربك ضرباً بعد ضرب حتى تموت، قال ناظَر ابن أبي دؤاد، فأسكت، هاتوا شيء من القرآن أقول به، هاتوا شيء من السنة أقول به فلا يأتون بدليل، يقول الخليفة لأحمد:تعرف صالح الرشيدي؟،قال:سمعت باسمه، قال:كان مؤدبي، فسألته عن القرآن فخالفني، ولما خالفني وأصر على أن القرآن غير مخلوق أُمِرت به فوطيء وسُحِبَ حتى مات، قال: هاتوا العقابين والسياط، قال:اءتوني بغيرها، ثم قال الخليفة للجلادين: تقدموا واضربوه، وربطوا الإمام أحمد، وكل فرد منهم يضرب سوطين و بأقوى ما عنده ويقول الخليفة للجلاد: شدّ يداً قطع الله يدك..،لينال أحمد رحمه الله أعظم العذاب بالضرب على أيديهم، ثم يقول الخليفة علامَ تقتل نفسك إني عليك لشفيق وجعل ذلك القائم على رأسه الحارس ينخسه بالسيف، وذاك يقول ويحك يا أحمد ما أجبتني، أجبني إلى أي شيء يكون لك فيه فرج حتى أطلقك فيقول: يا أمير المؤمنين أعطني شيئاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي الجلاد ويضرب وهكذا تستمر عملية الضرب حتى قال ذهب عقلي فأفقت والأقياد في يدي فقال لي رجل كببناك على وجهك وجعلنا فوقك حصيراً ووطئنا عليك فقال ماشعرت بذلك، أتوني بأكل فقلت لا أفطر وكان صائماً، ثم جاؤوا به والدم يسيل في ثوبه فصلى فقال أحدهم: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ قال أحمد:صلى عمر وجرحه يثعب دماً، ثم مكث في السجن ثم خُلّي عنه بعد 28 شهراً، ثم جُعِل في الإقامة الجبرية، في بيته، وليس هناك أصعب على العالم من أن يتوقف عن نشر العلم، سئل أحدهم عن الإمام أحمد رحمه الله فقال: رجل هانت عليه نفسه في سبيل الله فبذلها كما هانت على بلال نفسه، لولا أحمد لذهب الإسلام.
فيا ضعيف العزم الطريق طويل..تعب فيه آدم.. وجاهد فيه نوح.. وألقي في النار إبراهيم.. واضطجع للذبح إسماعيل.. وشق بالمنشار زكريا وذبح الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم وكسرت رباعيته وشج رأسه ووجهه وقُتِل عمر مطعوناً وذو النورين علي والحسين وسعيد بن جبير وعذب ابن المسيب ومالك..، فالشاهد أنه في النهاية لا سبيل إلا الصبر..
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: (أدركنا أفضل عيشنا بالصبر)،يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر مع مافيها من المنغصات والشدائد، فهو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بدونه، ولذلك ينبغي على العبد أن لا يفعل شيئاً ينافي الصبر، مثل شكوى الخالق للمخلوق والتبرم والتضجر فإما أن يخبر الإنسان الطبيب بعلته ليداويه فلا بأس..
والأنين.. الألم.. ما يحدث من صوت من المريض المتألم..، هناك أنين استراحة وتفريح فلا يكره، وأنين شكوى فيكره ففيه تفصيله..
ومما ينافي الصبر ما يحدث من النائحات وغيرهم وحتى من الرجال الآن من لطم الرأس والخد و ضرب الوجه باليدين والكفين والنياحة.. واويلاه.. واثبوراه..
ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يسلك سبيل الصابرين، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا هذا الخلق الكريم، إنه جواد كريم..
مختارات