فقه الشكر (٢)
والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الطعام والشراب أيهما أفضل؟ وكالسؤال عن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل؟
فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر، والمحرم لا يترك إلا بصبر وشكر.
وأما المقدور الذي يقدَّر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.
والله عزَّ وجلَّ امتحن كل عبد بنفسه وهواه، وأوجب عليه جهادها في الله، فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به، وتصبر عن الهوى المنهي عنه، فلا ينفك العبد عنهما غنياً أو فقيراً، معافى أو مبتلى.
والله سبحانه لم يفضل أحداً بالفقر والغنى، كما لم يفضل أحداً بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)} [الحجرات: ١٣].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، «قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، (قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» أخرجه أحمد (١).
والناس من آدم، وآدم خلق من تراب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والتقوى مبنية على أصلين:
الصبر.
والشكر.
وكل من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فأتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله هو الأفضل.
فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.
والفقراء وإن كانوا يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فهذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة، وإن سبقوهم بالدخول إلى الجنة.
فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل الجنة كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم (٢).
وقد جمع الله سبحانه لرسوله بين المقامين: الصبر والشكر على أتم الوجوه، فكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين.
فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه.
فكان - صلى الله عليه وسلم - أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه عزَّ وجلَّ كمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين.
فصلوات الله وسلامه عليه عدد المخلوقات والذرات والأنفاس.
وقد جعل الله نبيه غنياً شاكراً بعد أن كان فقيراً صابراً كما قال له سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨)} [الضحى: ٦ - ٨].
والشكر مبني على ثلاثة أركان:
الأول: معرفة النعمة وقدرها.
الثاني: الثناء على الله المنعم بها.
الثالث: استعمالها فيما يحب موليها ومعطيها وهو الله سبحانه.
فمن كملت له هذه الثلاثة فقد استكمل الشكر.
وبمشاهدة النعمة يتولد في القلب الحب والتعظيم للمنعم، ويخبت لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علماً ومعرفة بحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة ومحبة، وإنابة وإخباتاً، وشكراً وتوكلاً.
والشكر قيد النعم، فإن شُكرت قرّت، وإن كُفرت فرت، كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)} [إبراهيم: ٧].
وأعظم الشكر لله سبحانه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له.
والله تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه، فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، والمنتفع بالشكر هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر كما قال سبحانه: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)} [النمل: ٤٠].
ولكنه سبحانه يحب أن يحمد ويشكر، ويكره أن يكفر به وبنعمته كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: ٧].
والكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)} [النحل: ١١٢].
والله حكيم في عطائه، وحكيم في منعه، وله الحمد على هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.
(١) صحيح: أخرجه أحمد برقم (٢٣٤٨٩)، انظر السلسله الصحيحة رقم (٢٧٠٠).
(٢) أخرجه مسلم برقم (١٨٢٧).
مختارات