الصفة الثالثة من صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة
إن من صفات المؤمنين العظيمة: الخشوع في الصلاة، وقد ذكر الله -تعالى- هذا الوصف في أول صفات المؤمنين الذين أخبر بتحقيق فلاحهم وفوزهم وسعادتهم ونجاتهم، وإرثهم لأعلى الجنة وهو الفردوس وخلودهم فيه، وذلك في أول سورة " المؤمنون "، حيث يقول الله -تعالى- في مطلع هذه السورة الكريمة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ.
ثم ذكر -تعالى- بقية الأوصاف، ثم قال -تعالى- مخبرًا عن عظيم جزائهم وثوابهم: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وأصل الخشوع: السكون والطمأنينة والانخفاض، وفي الشرع خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عدّ الله من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا في قوله في سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ - إلى قوله -: وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ثم ختم الآية بقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
وقد بَيَّن الله أن الصلاة صعبة وشاقة على غير الخاشعين، وأنها سهلة هيّنة على الخاشعين فقال -تعالى-: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وقد اختلف العلماء في معنى الخشوع في الصلاة على أقوال كثيرة منها:
1- قيل: هو الإخبات والتَّذَلُّل.
2- وقيل: هو الخوف والسكون.
3- وقيل: هو التواضع.
4- وقيل: هو غضّ البصر، وخفض الصوت، كما قال -تعالى-: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ.
5- وقيل: هو عدم الالتفات.
6- وقيل: هو أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده، واستدلوا بما يأتي:
أ - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر حيث يسجد.
ب - حديث عائشة قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.
ج - حديث أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يزال الله مقبلًا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه.
د - قول أبي هريرة كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزل: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود.
هـ- حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله حتى قال: لينتهين عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم.
وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، لما سبق من الأدلة، وخالف المالكية الجمهور فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله -تعالى-: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام، وينافي ظاهر الآية المتقدمة؛ إذ أن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده ليس بمولٍّ وجهه شطر المسجد الحرام.
7- وقيل: الخشوع السكون وحسن الهيئة.
8- وقيل: الخشوع أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة، وروي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
9- وقيل: الخشوع في الصلاة: هو جمع الهمّة والإعراض عما سواها، والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.
قلت: وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي داخلة في معنى الخشوع، والخشوع أعم منها؛ إذ الخشوع خشوعان:
1- خشوع القلب بجمع الهمّة وحضور القلب، والتدبر لما يجري على اللسان من القراءة والذكر، ولما تسمعه الأذن من قراءة إمامه.
2- وخشوع الجوارح بسكونها وعدم العبث والالتفات إلى غير مقصود الصلاة.
وبعد معرفة معنى الخشوع في الصلاة. فلو نظرنا في واقعنا، وأمعنا النظر لوجدنا الكثير من المصلين لا يخشع في صلاته، بل غفل عن المعنى المقصود من الصلاة، وقد استولت الغفلة والخواطر والوساوس وحديث النفس والشكوك على الكثير منهم، فيدخل في صلاته ويخرج منها، وما يدري كم صلى، ولا كيف صلى، ولا ماذا قرأ إمامه، فلا يتدبر القراءة، ولا يستحضر عظمة الله -تعالى-، ولا يستجمع همّته عند ذكر، أو تسبيح، أو تشهّد، أو قراءة، وكثر العبث من كثير من المصلين في صلاتهم حتى كأنه ليس في الصلاة، فمنهم من يعبث بلحيته، ومنهم من يدخل أصابعه في خيشومه، ومنهم من يفرقع بأصابعه، ومنهم من يتمايل من جنب إلى جنب، ومنهم من يتثاءب ولا يكظم بل يخرج صوتًا منكرًا، ومنهم من يعبث بساعته، ومنهم من يتشاغل بتعديل عباءته ومشلحه أو ثوبه، ويتكرر ذلك منه بلا حاجة.
وكل هذه الأفعال تدل على أن هذا المصلي قد التفت قلبه عن الله -تعالى-، وأن جسمه موجود مع المصلين، ولكن قلبه يجول في كل واد، وهذا يدل على فقدان الخشوع في الغالب، وهذا مصداق ما ورد في الحديث: أن أول ما يفقد من هذه الأمة: الخشوع، حتى لا تكاد ترى خاشعا.
والخشوع -يا أخي المسلم- هو لب الصلاة وروحها، والصلاة بلا خشوع كالجسد بلا روح؛ لذلك ينبغي للرجل إذا أقبل إلى المسجد يريد الصلاة أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع، وأن يكون عليه السكينة والوقار، فما أدرك صلى، وما فاته قضى، ولا بأس أن يسرع قليلًا إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى.
وإذا دخل في الصلاة فليحذر من الالتفات، وإذا سجد فليضع أصابعه -يديه- حذو أذنيه، ويضم أصابعه، ويوجهها نحو القبلة، ويرفع مرفقيه وساعديه ولا يلزقهما بجنبيه، فقد ورد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سجد، لو مرت بُهيمة من تحت ذراعيه لنفذت وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه وضبعيه.
فالمصلي إنما يقف بين يدي أحكم الحاكمين ورب العالمين، ويجب أن يكون على أحسن حال، وأحسن هيئة بأن يقف بأدب وخضوع وخشوع، واستحضار لعظمة الله، وقد قال الله -تعالى-: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي: عند كل صلاة، فأمر الله المصلي أن يكون على هيئة حسنة.
أرأيت، أخي المسلم - ولله المثل الأعلى -، لو وقف إنسان بين يدي ملك أو رئيس أو أمير أو وزير لوقف على أحسن حاله وهيئته في لباسه وأدبه وخشوعه وحركاته وسكناته، فالله سبحانه أعظم من كل مخلوق، وكل مخلوق فقير إليه، وكل الخلائق في قبضته وتحت تصرفه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه، كما ورد بذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فالمصلي واقف بين يدي الله -عز وجل- يرجو رحمته، ويخشى عقابه، ويستلهم الرشد منه، ويسأله في كل ركعة من ركعات الصلاة أن يرشده ويدله، ويثبته على الصراط المستقيم؛ وذلك في قراءته لفاتحة الكتاب: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
كما يسأله أن يجنبه طريق المغضوب عليهم، وهو كل من علم ولم يعمل بعلمه، ويدخل في ذلك اليهود دخولًا أوليًا، كما يسأله أن يجنبه طريق الضالين، وهم كل من عبد الله على جهل وضلال، ويدخل في ذلك النصارى دخولًا أوليًا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
فالخشوع في الصلاة بمنزلة الروح للجسد، فكما أن الجسد لا بقاء له بدون الروح، فكذلك الصلاة لا فائدة فيها بدون خشوع، وقد ورد في الحديث: أن المصلي لا يكتب له من صلاته إلا ما عقل منها، وأن من الناس من ينصرف من صلاته ولا يكتب له منها إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، أو خمسها، أو سدسها، أو سبعها، أو ثمنها، أو تسعها، أو عشرها، على حسب ما عقل من صلاته.
فالناس يتفاوتون في صلاتهم تفاوتًا عظيمًا، فقد يصلي الرجلان أحدهما بجانب الآخر، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض؛ هذا وقف بين يدي الله مخبتًا متواضعًا لربه، مخلصا، راغبا راهبا قد أقام صلاته بحدودها وهيئاتها وشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، والآخر وقف بين يدي الله بجسمه لا بقلبه، وغفل عن مقصود الصلاة، ولم يقمها كما أمره الله، قد أخل بخشوعها وسها عن صلاته فأخلّ ببعض واجباتها أو مستلزماتها، فلذلك صار هذا البون الشاسع بين صلاتهما.
فالصلاة أعظم صلة ورابطة تصل المسلم بربه وبارئه وفاطره وخالقه سبحانه، وهي تحدد العهد والميثاق بين العبد وبين ربه، وهذا أحد الموقفين بين يدي الله، وذلك أن المسلم له موقفان بين يدي الله: موقف في الدنيا وموقف في الآخرة؛ فالموقف الذي في الدنيا هو موقف العبد بين يدي الله في الصلاة، والموقف الذي في الآخرة موقفه بين يديه للحساب.
فمن أحسن في الموقف الذي بين يديه في الدنيا، بأن وقف خاشعًا، ذليلًا، مخلصًا، وجلًا، راغبًا راهبًا، متّبعًا لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أحسن حالة وهيئة، كما أمره الله، سُهل عليه الموقف الثاني بين يدي الله للحساب، فكان عليه سهلًا يسيرًا، ومن أساء في هذا الموقف الذي في الدنيا في صلاته، ولم يقمها كما أمره الله، شُدد عليه الموقف بين يدي الله للحساب، فكان عليه شديدًا عسيرًا، وما ذاك إلا لأن الصلاة مع الخشوع تزكي صاحبها، وتهذّب نفسه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتأمره بالخلق الكريم، كما قال -تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وسبب ذلك الإخلاص في هذه العبادة العظيمة، والرغبة الصادقة فيما عند الله من ثواب، والرهبة لما عنده من عقاب، وحضور القلب فها حيث يتواطأ القلب واللسان على ما ينطق به اللسان، أو تسمعه الأذن من كتاب الله -تعالى- الذي هو هداية للمتقين، أو تسبيح، أو تحميد، أو ذكر في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده.
فهؤلاء هم الذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، حيث عرفوا الله وقدروه حق قدره، فخافوا سطوته وعقابه فخضعوا له، وأخبتوا لربهم وأجَلُّوه وعظموه وخشعوا له وخضعوا، فسكنت قلوبهم وجوارحهم في صلاتهم، وهذا معنى ما ورد في الأثر: لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه.
أما كون كثير من المصلين لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، مع أن الله قال: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ والله أصدق القائلين: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
فالسر في ذلك: أن هؤلاء المصلين إنما أُتُوا من قبل أنفسهم، حيث أنهم لم يأتوا بها كما أمروا من الإقامة لها، والخشوع والطمأنينة فيها، والإتيان بشروطها وواجباتها وأركانها ومستلزماتها، بل أتوا بها صورة لا حقيقة، وشتان عند ذوي العقول والفطر السليمة بين الصورة والحقيقة، ولو كان الإتيان بالصلاة صورة يؤدي الثمرة المرجوة، ويُسقط اللوم والذم والعقوبة عن صاحبها لما توعد الله المصلي مع السهو بالويل في قوله -تعالى-: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ.
ولو كانت الصلاة صورة بلا حقيقة تنفع لنفعت المنافقين الذين يصلون مع أشرف الخلق محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لم يصلوا عن إيمان وإخلاص ورغبة ورهبة، ولم تنشرح صدورهم لها، ولذلك لا يطمئنون فيها، ولا يكثرون من ذكر الله فيها، ولا يقبلون عليها بقلوبهم، بل يأتونها بتثاقل وكسل، ومراءاة للناس، كما قال -تعالى-: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.
وكما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة المنافقين في قوله: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كادت تطلع بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فإنه لا يزداد بها من الله إلا بُعدًا، ذلك أن الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، فحينئذ تكون راحة له، وقرة عين كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حُبِّب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال يا بلال أرحنا بالصلاة.
ومن لوازم الخشوع في الصلاة: الطمأنينة فيها وعدم العجلة والسرعة، ومن أجل هذا علّق الله -سبحانه وتعالى- الفلاح بخشوع المصلي في صلاته، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر في الصلاة، بل لا يحصل الخشوع إلا مع الطمأنينة، وكلما زاد المصلي طمأنينة زاد خشوعًا، وكلما قلّ خشوعه اشتدت عجلته حتى تصير حركات بدنه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع، ولا إقبال على العبادة، ولا معرفة لحقيقة العبودية.
والمطلوب من المصلي إقامة الصلاة، ولهذا فإنك لا تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من القرآن إلا مقرونًا بإقامتها، كما قال -تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.
فالمصلون من الناس قليل، والمقيم للصلاة منهم أقل القليل، وهناك بون شاسع، وفرق عظيم بين من تكون الصلاة ربيعًا لقلبه وحياة له وراحة وقرة لعينة، وجلاء لحزنه وذهابًا لهمّه وغمِّه، ومفزعًا له في نوائبه ونوازله، وبين من تكون الصلاة مسرحًا لقلبه يتجوّل فيها إلى حيث شاء من أمور دنياه وملذاته وشهواته، وقيدًا لجوارحه، وتقليفًا له، وثقلًا عليه، وكأنه في صلاته طائر في قفص، فهي كبيرة وشاقة عليه.
وصدق الله العظيم حيث يقول: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وإنما كبرت عليهم لخلو قلوبهم من محبة الله -تعالى- وتكبيره وتعظيمه، والخشوع له، وقلة رغبتهم فيما عند الله -تعالى-، فإن حضور قلب العبد في الصلاة، وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغه وسعه في إقامتها، وإتمامها على قدر رغبته في الله -تعالى-.
قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية مهنا بن يحيى (إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة) ا. هـ، وليس حظ القلب العامر بمحبة الله، وخشيته، والرغبة فيه، وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي من ذلك.
ولقد مدح الله -سبحانه- في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته الخاضعين والخاشعين له، فقال -تعالى-: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.
ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عبادتهم، وهي الصلاة التي عليها يحافظون فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ.
ووصف الذين أوتوا العلم بالخشوع حينما يسمعون كلامه يتلى عليهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.
وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعه له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ألا إن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر والوجه وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه في الصلاة: خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي.
ورأى بعض السلف رجلا يعبث بيده في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في قوله -تعالى-: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ قال: (هو الخشوع في القلب وأن تلين كفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ قال: خائفون سائلون، وقال الحسن كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة، وقال مجاهد في قوله -تعالى-: وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ قال: (متواضعين).
فالقلب إذا خشع تسكن خواطره وإرادته الرديئة الناشئة عن اتباع الهوى، وينكسر وينخضع لله -تعالى-، فيزول بذلك ما كان فيه من التعاظم والترفع والتكبّر، ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، كما قال -تعالى-: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.
ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع، وخلوه منه، كان ذلك خشوع نفاق، وقد استعاذ السلف منه، كما قال بعضهم: (أستعيذ بالله من خشوع النفاق، قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع)، ونظر عمر إلى شاب قد نكّس رأسه فقال له: (يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب).
فمن أظهر خشوعًا غير ما في قلبه، فإنما هو نفاق على نفاق، وينشأ الخشوع في القلب من معرفة الله -تعالى-، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع، ويتفاوت الخشوع في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وهو -سبحانه- يجير القلوب المنكسرة من أجله، ويقرب ممن يناجيه في الصلاة، ويعفر وجهه في التراب بالسجود، كما يقرب من عباده الداعين له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم في الأسحار، فيجيب دعائهم، ويعطيهم سؤالهم.
ومن الخشوع في الصلاة: وضع اليمين على اليسار، فوق الصدر في الصلاة تذللا لله -تعالى-، وسُئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن ذلك، فقال: (هو ذلّ بين يدي عزيز حميد).
وعلى المصلي -حينئذ- أن يتذكر وقوفه بين يدي الله -تعالى- يوم القيامة للحساب.
ومن ذلك عدم التفات القلب إلى الشواغل والهواجس بقدر المستطاع، وعدم التفات الوجه إلى اليمين أو الشمال، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة، قال: هو هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.
وفي حديث أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يزال الله مقبلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف الله عنه.
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: إذا صلى أحدكم فلا يلتفت، فإنه يناجي ربه، إن ربه أمامه، وإنه يناجيه، فلا يلتفت.
ولا تنس -أيها المسلم- ما في الركوع والسجود من تعظيم الله -تعالى- قولًا وفعلًا، كقولك في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، فليكن قلبك مع لسانك، فتذكر الله بقلبك ولسانك وجوارحك؛ إذ تنحني لله -تعالى- في الركوع، وتضع أشرف أعضاء بدنك وهو الوجه على الأرض لله -تعالى- في السجود، فكن حاضر القلب في هذه الأعمال، فالله -تعالى- لا يقبل إلا من قلب مقبل منيب، لا من ساهٍ لاهٍ غافلٍ، وفقنا الله لسلوك صراطه المستقيم، وثبتنا عليه حتى يأتينا اليقين، إنه على كل شيء قدير.
مختارات