من احوال الذاكرين
المحبون يستوحشون من كلِّ شاغلٍ يَشغَلُ عن الذكر ، فلا شيءَ أحبَّ إليهم من الخلوة بحبيبهم .
قال عيسى u : يا معشر الحواريين كلِّموا الله كثيراً ، وكلموا الناس قليلاً ، قالوا : كيف نكلِّم الله كثيراً ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدُعائه ([1]) .
وكان بعضُ السَّلف يُصلِّي كلَّ يوم ألف ركعة حتى أُقعِدَ من رجليه ، فكان يُصلي جالساً ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبتُ للخليقة كيف أَنِسَتْ بسواك ، بل عَجِبْتُ للخليقة كيف استنارت قلوبُها بذكر سِواك ([2]) .
وكان بعضُهم يَصومُ الدَّهرَ ، فإذا كان وقتُ الفطور ، قال : أحسُّ نفسي تخرُج لاشتغالي عن الذكر بالأكل .
قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحِشُ وحدَك ؟ قال : كيف أستوحِشُ وهو يقول : أنا جليسُ من ذكرني ([3]) .
كَتمتُ اسم الحبيب من العبادِ |
| ورَدَّدتُ الصَّبابةَ في فُؤادي |
فَوَاشَوقاً إلى بَلدٍ خَلِيٍّ |
| لعلِّي باسم مَنْ أَهوى أُنادي |
فإذا قَوِي حالُ المحبِّ ومعرفته ، لم يشغَلْهُ عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بَينَ الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحلِّ الأعلى ، كما قال عليٌّ t في وصفهم : صَحِبوا الدُّنيا بأجسادٍ أرواحُها معلقة بالمحلِّ الأعلى ([4]) ، وفي هذا المعنى قيل :
جِسمي معي غير أنَّ الروحَ عندكم |
| فالجِسمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وطن |
وقال غيره :
ولقَد جَعلتُكَ في الفُؤاد مُحدِّثي |
| وأَبحْتُ جِسمي من أراد جُلوسي |
فالجِسمُ منِّي للجَليس مُؤَانسٌ |
| وحَبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي ([5]) |
وهذه كانت حالة الرسل والصدِّيقين ، قال تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً { ([6]) .
وفي " الترمذي " ([7]) مرفوعاً : (( يقول الله U : إنَّ عبدي كُلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرنَهُ ([8]) )) .
وقال تعالى : } فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ { ([9]) يعني : الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : } فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ { ([10]) ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : } فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { ([11]) ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره .
ولهذا ورد فضلُ الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند "
و" الترمذى " و" سنن ابن ماجه " عن عمرَ مرفوعاً ([12]) : (( مَنْ دخلَ سوقاً يُصاحُ فيه ويُباع ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له المُلك وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو حيّ لا يموتُ بيده الخير وهُو على كلِّ شيءٍ قدير ، كتب الله له ألفَ ألفَ حسنة ، ومحا عنه ألفَ ألفَ سيئة ، ورفع له ألف ألفِ درجة )) .
وفي حديث آخر : (( ذاكِرُ الله في الغافلين كمثلِ المقاتل عن الفارين ،
وذاكرُ الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس )) ([13]) .
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلبُ الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإنْ كان في السوق وإن حرّك به شفتيه فهو أفضل ([14]) .
وكان بعضُ السَّلف يقصِدُ السُّوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة .
والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعالَ حتّى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلَوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرَّقا ، ثم ماتَ أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أنَّ الله غفر لنا عشية التقينا في السُّوق ؟ ([15])
([1]) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/94 و195 .
([2]) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/195 . وانظر : فيض القدير للمناوي 4/325 .
([3]) انظر : صفة الصفوة لابن الجوزي 3/79 ، وسير أعلام النبلاء 8/175 ، والمقاصد الحسنة للسخاوي : 96 .
([4]) انظر : تذكرة الحفاظ 1/12 .
([5]) نسبه ابن الجوزي لرابعة العدوية في " صفة الصفوة " 4/301 .
([6]) الأنفال : 45 .
([7] ) في " الجامع الكبير " ( 3580 ) ، وإسناده ضعيف لضعف عفير بن معدان ، وقال الترمذي : (( غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وليس إسناده بالقوي )) .
([8]) بكسر القاف وسكون الراء عدوه القارن المكافيء له في الشجاعة والحرب فلا يغفل عن ربه حتى في حال معاينة الهلاك . انظر : تحفة الأحوذي 10/40 .
([9]) النساء : 103 .
([10]) النساء : 103 .
([11]) الجمعة : 10 .
([12]) أحمد 1/47 ، وابن ماجه ( 2235 ) ، والترمذي ( 3429 ) ، وهو حديث ضعيف جداً ضعفه الأئمة وفي إسناده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير منكر الحدحيث ، وانظر : علل الحديث لابن أبي حاتم ( 2006 ) و( 2038 ) ، وعلل الدارقطني 2/48 .
([13]) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 6/67 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/181 ، وهو ضعيف جداً في سنده عمران القصير قال فيه البخاري : (( منكر الحديث )) .
([14]) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/204 .
([15]) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35692 ) .