فقه المشيئة والإرادة (٤)
إن كثيراً من الكفار والمشركين والعصاة يلوحون بأن الله أجبرهم على ما فعلوه من كفر أو معصية كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥)} [النحل: ٣٥].
إن أمر الله ظاهر لمن تدبره، فالله يأمر عباده بالخير، وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين في الدنيا أحياناً بعقوبات ظاهرة، يتضح فيها غضبه عليهم لعلهم يتوبون كما قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)} [السجدة: ٢١].
فلا مجال بعد هذا لأن يقال: إن إرادة الله ترغم العصاة على الانحراف، ثم يعاقبهم الله عليه، إنما هم متروكون لاختيار طريقهم، وهذه هي إرادة الله.
وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر، من هدى أو ضلال، يتم وفق مشيئة الله.
لكن الله يحب لهم الإيمان والطاعات، ويرضى بها، ويأمر بها.
ويكره لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بها، بل يمقتها ويبغضها، وينهى عنها.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ لرسوله سنته في الهدى والضلال بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧)} [النحل: ٣٧].
فوظيفة الرسول البلاغ، أما الهدى والضلال فيمضي وفق سنة الله، وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها.
فمن أضله الله، لأنه استحق الضلال وفق سنة الله فإن الله لا يهديه، لأن لله سنناً شرعية تعطي نتائجها، وسنناً كونية تعطي نتائجها، وهكذا شاء الله، والله فعال لما يشاء، وقدرته سبحانه فوق كل شيء، لأن الله لا يعجزه شيء.
وكل شيء في الوجود مرده إلى مشيئة الله، وما يأذن به الله للناس من قدرته على الاختيار هو طرف من مشيئة الله، ككل تقدير آخر وتدبير، شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون به، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون.
فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)} [التكوير: ٢٧ - ٢٩].
فلا يفهم الناس أن مشيئتهم منفصلة عن مشيئة الله التي يرجع إليها كل أمر.
فإعطاؤهم حرية الاختيار ويسر الاهتداء إنما يرجع إلى تلك المشيئة المحيطة بكل شيء كان أو يكون أو سيكون.
ولا بد أن يعلم المؤمنون هذه الحقيقة ليدركوا ما هو الحق لذاته، وليلجأوا إلى مشيئة الله الشاملة لكل شيء، يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون ويدعون في الطريق.
فكل ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وقد نهى الله سبحانه أن يقول العبد في الأمور المستقبلة: إني فاعل ذلك من دون أن يقرنه بمشيئة الله، لما فيه من المحذور برد الفعل إلى مشيئة العبد وحده، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله.
ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد بربه، كما قال سبحانه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)} [الكهف: ٢٣، ٢٤].
ولما كان العبد بشراً لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر، ليحصل المطلوب، ويندفع المحذور.
ويحسن بالعبد ذكر الله عند النسيان فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه.
وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين.
مختارات

