المشهد الحادي عشر
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}..
أَمامَ الرّجلِ الصّالح ؛ِ يَكتشفُ موسى أنّه يَنتقلُ إلى أَقْصى التَّوقعاتِ !
فَمِنْ عَوالمِ القَصْرِ إلى رَعْيِ الأغنامِ ؛ مُقابلَ زَوجةٍ و بيتٍ آمِن !
هلْ هذا هوَ الهَزيعُ الأَخيرُ مِن الحِكايةِ.. أم أنّه وقتُ الكُمونِ قبلَ هُبوبِ النَّهارات !
لنَا نحنُ دَومًا فِيما يَجري لَونُ المَشهدِ الحَاضرِ.. وللحكمةِ العُليا صورةُ الرُؤى الأَخيرةِ.. و على حينِ ؛ تُهيّءُ الأقدارُ بَابَ النّجاة ومُنتهى الأفراحِ.. نَغرقُ نحنُ في غَيبوبةِ التَّساؤُلِ.. لماذا و كَيف !
{ ثَماني حجَجٍ فإنْ أتمَمتَ عشرًا فَمِن عِندك}..
هنا التَّعبيرُ القرآنيُ أشْبهَ بِقرارٍ إلهيٍّ خَفِيٍ ؛ يُحيلُكَ إلى دَهشةٍ عَالية..!
حَيثُ تَلمحُ حَياةً مُختلفةً تُنْحَتُ على سُطورٍ تَموج !
طِفلٌ في تَابوتٍ.. قَصرُ طَاغيةٍ.. مَرعًى و عَصًا.. لوحاتٌ ليسَ بينها قاسمٌ إلا الغَرابَة !
هل هذا أوانُ { واصْطَنَعتُكَ لِنفْسِي }.. واللّامُ هنا لامٌ الاختصاصِ والخلوص..
ولأجلِ هذهِ اللام كانَ القرارُ (عَشرَ سِنين) !
عَشرُ سِنين ؛ كانَت في عَينِ مُوسى لأجلِ بيتٍ يَنزعُ على عَتبتهِ تعَبَه.. و لكنّها في عينِ الله ؛ كانتْ لأجلِ أنْ يَتوقَفَ زَمنُ السَّادةِ العَبيد !
لقَدْ كانَت بَني اسرائيل تَسيرُ كلَّ صَباحٍ في دُروبِ الدُّموعِ دونَ أن تَنتَبه ؛ أنّ الإصرارَ على بَعضِ الطُرقاتِ حزنٌ لا يُوقِفه إلا أنْ يَحمِلوا ذواتَهم، و يضعونَها على مَذبَح التَّغيير !
كانت جِرارُ بني اسرائيلَ فارغةً كُلها، و تَنتظرُ أن تَسكبَ فيها مُعجزةٌ ما ؛ قَبَسًا من هِداية.. هل كانَ ذلك نوعٌ من العَجْز..!
رُبمَا.. فلقد كانت بَني اسرائيل نَموذَجًا للطَبيعةِ التي تَعتادُ الاسْتضعافَ ؛ حتى تُؤمِنَ أنّ الطَمأنينةَ في الفُتاتِ الخَالي من السِّياط !
رحلَ اللهُ بِموسى إلى مَديَن ؛ لأن خِرافَ بني اسرائيل لنْ يَرعَاها إلا نبيٌ صُنِعَ على عَينِ الله !
كانَ موسى - عليه السلام- في مَراعي مَديَن يَطأُ العُشبَ النَّديَ، و يَسمعُ حَفيفَ السَّنابِل، و يَرى الحياةَ عَذراءَ خَاليةً من زينةِ فِرعَون !
بِكْرًا في انبثاقَتِها..
لم يَمَسَّها تَشَوُّهُ المَدنيةِ، ولا الآصَارُ التي تَخنقُها !
كانت الأفَكارُ في عَقْلِ موسى كلَّ يومٍ تَموجُ مَعَ الرِّيح.. لَكنَّه المَوجَ الذي تَستقيمُ بَعدَه له الرّيحُ، وتستقيمُ بعدها ؛ بَصيرةٌ لن تَضِّلَ أبدًا !
تُمطرُ السّماءُ في مَديَن ببُطءٍ.. تَتشَرَّبُ الأرضُ الماءَ على مَهلٍ.. تَخيطُ الشَّمسُ بأشِعَتها لَوحةَ المَواسِم..
تَتسَلَّلُ الأشِعةُ بهدوءٍ إلى البُذورِ الغَائبةِ..
ثمَّ يَتفتَّحُ الصَّمتُ الدَفينُ أعشابًا و فَسائِلَ و سَنابلَ قَمحٍ !
يُولدُ الرَّبيعُ من صَمتِ اللٍيل و قَطرةِ النّدى، و نَسمةٍ عَابِرة..
تَتجذَّرُ بعيدًا في غَفلةٍ من الطَّبيعةِ.. ثم تُعانقُ الشَّمسَ قويةً عَصِيةً على الاقتِلاع !
هكذا هيَ سنن الحَياة يا مُوسى !
مِنَ المُهِّم أنْ نُؤمنَ بِسُنَّةِ الله.. بأنَّ الماءَ يَنتصرُ على الأسْوار.. انظُر إليه كيفَ يسقطُ غَيثًا في مَوسِمه.. يَخترقُ حِصارَ الجَفافِ بهُدوءٍ.. يَحضنُ الغيمُ الأرضَ.. تَنفخُ الرِّيحُ في الشّتاء ؛ فتَكسرُ أغلالَ التُربَة، و تَنمو في كَفِّ النَّهار بِذرةٌ !
تَبدو مَواعيدُ الطَّبيعةِ قِدِّسَيةً لا تأبَه لِجوعٍ عابِر.. فالبُذورُ تُزرَعُ كي تُعبِّيءَ كلَّ السِّلال !
كلَّ الطُموحاتِ و كلَّ الأحلامِ يا موسى ؛ مِثل لَوحةِ المَطر..
الفَراشاتُ، و العَصافيرُ، و الخِرافُ ؛ تظلُّ تَرقبُ جدائِلَ المَطرِ ولا تَخشى الجَدب..
تُراقبُ المطرَ الناعِمَ.. حتّى إذا اكتملَ الفيضُ في الرّبيع ؛ غَنَّت فهذا آوانُ الحَصَاد !
يبدو الصَّمتُ هُنا.. لُغةً جَديدَةً يَتعلَمُها مُوسى - عليه السلام- ويَكتشفُ كَم هي ثَرِيَّة !
تَرفلُ الطبيعةُ بِلُغَةٍ سَخِيَّة.. تُعلِّمُك فيها الصّمتَ الثَّرِي.. إذ الوَعيُ وَليدُ الصّمت..!
لا شيءَ هنا ؛ يُحدثُ ضَجيجًا و لا صَخَبًا.. ولكنّه يَمورُ بحركةٍ بطيئةٍ وهادئةٍ لا تَتوقَف..
تَنحتُ إيماءاتِ الطبيعَةِ بصبرٍ عَجيب !... في تَشكيلِ لَوحةِ الرَّبيع.. حيثُ تُخبِرُك الحَقيقةُ أن البِناءَ النّامي لا يكونُ بِوَكْزَة !
نَعم.. { فوَكَزهُ مُوسَى فَقضَى عَليِّه }..
و بقيَ قَصرُ فِرعون شامِخًا !
رُبما يَشفينا الغَضبُ مُؤقتًا.. و رُبما في المُقابِل ؛ ينهكُنا هذا التَّجذُرُ الهادِىءُ.. لكنّ أجنحتَنا بعدَ هذا التجذُّرِ ؛ لا تَبتلُ بالهزيمة لحَظَة موعِدِ الطَّيران !
تَمضي هذهِ الخِرافُ صامتةً ؛ يَتبعها موسى بخُطًى تَشتبكُ معَ خُطَى القَدر.. تَبدو رائحةُ الخِرافِ ثقيلةً على من اعتادَ عِطرَ القُصور.. لا ضيرَ ؛ فهنا مدرسةُ الطَّبيعة !
حيثُ يَتعلمُ مُوسى ؛ أنَّ الذِّئابَ لا تُؤتَمَنُ على حِراسةِ الخِراف !
انظُر يا مُوسى إلى الخِراف حينَ تُحاصَرُ كيفَ تَنجو؟!
إنّها فقط ؛ تَتجمّعُ، ثم تَنجو بقوةِ القَطيع !
تَتكثفُ الحَقائِق في فصولِ الطّبيعة.. و تلقِي دروسَها بلُغةٍ هادِئة.. تُوقفُك على سُنَن الله في الكَون.. تُشرَعُ الأبوابُ هنا للفِكر ؛ كي يَنضجَ.. ففي هُدوءِ الطّبيعة ؛ نَسمعُ خُطَى المُستقْبل !
لقد رأى مُوسى - عليه السلام - الكَثيرَ من الخَراب.. رأى في القُصورِ كيفَ يَتراكمُ الصَّقيعُ على طَيّاتِ القُلوب..
لكنّه في المَرعَى ؛ رأى قيمَةَ الوقْتِ، والصّبرِ، و أثر نُعومةَ المطرِ في انبِثاقِ فَسيلَة !
{ ثَماني حجَجٍ فإنْ أتمَمتَ عشرًا فَمِن عِندك }..
هي إِذَن عُزلةٌ لِفكرَة.. مثلُ خلوةِ مُحمدٍ - عليه السلام - في غارِ حِرَاء..!
هلْ تَعلَم أيها القارِىءُ..
أنَّ الخلوةَ ترفَعُك إلى أوكَارِ النُسُّور !
الخلوةُ.. تَجمعُك بذاتِك ؛ حتى يُصبحَ عمْرُك نهارًا من الضِّياء المُبصِر !
الخلوةُ.. تُقرّبُك من مَدى الرُؤى.. ففي الخلوةِ يَنضجُ الحَصادُ ؛ إذ الوقتُ فيها يَشفينا !
نحنُ نَغيبُ في الخلوة ؛ِ لكنْ لنَزدادَ اتّساعًا !
و دَومًا بعدَ الخلوةِ الواعِيةِ ؛ يَنضجُ الفِكرُ.. فيُثقِلُ الخَطَوات ؛ فلا يَجعلُها عَجلَى !
العُزلَةُ، أو الخلوةُ.. هي سُلوكُ التّربيةِ الإلَهية للمُصلِحينَ، و صّناعِ التَّغيير !
هلْ يُمكنُ عَيشُ الخلوة؟!
نعم.. فالخلوةُ قرارُ إرادَةِ روحٍ قَويّة ؛ أن لا تَغمُرُها الأرضُ بطوفَانِ صَخَبها.. فتَتعطلُ بَوْصلةُ السَّفينة.. أو تَغرقُ في تَفاصيلِ المَوجِ الهَادرِ !
إنها حكايةُ شَخصٍ مُختلف ؛ٍ اقتَطعَ رغمًا عن الحَدَث القاهِرِ زمنًا لنَفسٍ توَّاقةٍ، تَتشوقُ إلى مقاماتٍ تَليقُ بقَرارِ الخِلافةِ الذي منَحتك إيّاهُ إرادةُ الله..
فانطَلَقَ يُراكمُ الجهدَ في سُويعاتِه على مَدى أيامٍ، وأشهرٍ، وسَنوات..!
وانطلقَ يَحفرُ في صَمتٍ هادىءٍ ؛ ملامِحَ شَخصَه، ومَعالِمَ فِكرِه، وجَمالياتِ ذَوقِه..
وعَكفَ بجدٍ على قِراءةِ الوَعْي و قراءةِ الكونِ.. يُفكِّكُ ذاتَه ويُنشِؤُها من جَديد !
إنّها خلوةُ عَبدٍ واعٍ ؛ يُهيءُ نَفسَه لزمَنٍ يَتلهفُ لِعقلٍ مُبصِر !
و قد قيلَ frown رمز تعبيري أولُ الإبتداءِ خلوةُ المُتَعلِّم) !
لذا حُببَ إلى محمدٍ الخَلاءُ.. ليُكملَ اللهُ له المِيراثَ، ويصحَ له الانبعاث !
وعَلّمَه سُبحانه الصّمتَ المُقَدّس في حَضرةِ الجَواب.. وأَقامَه في غَارِ العُزلة.. وأرْهَفَ سَمعَه لهَمسِ الكَون،ِ ورسَالة ثَقيلة تَقتربُ منه في أنَاة !
فيا كلَّ مُتَّبعٍ.. ادفِن وُجودَك في أرضِ الخُمول.. فما نَبتَ مما لم يُدفَن لا يتمّ نتاجُه !
إذ الإصلاحُ حِرفةٌ ؛ حانوتُها الخلوة..
وقِفلُ الحانوتِ له مِفتَاح: الصّمتُ، ثم ثَنيُ الرُّكَبِ على عَتباتِ الفَهم !
حتى تَبلُغ جلوةَ الوَعِي.. ويليقُ بروحِك أن تَسمَعَ كلمةَ " اقرأ " تَتلوهَا أنتَ من بَعد على ملأٍ مِنَ النّاس !
فإذا ابتَغيتَ المقامَاتِ يا سَيدي.. فاعْلَم أنَّ ثَمنَها في الخلوَات !
مختارات