فقه المشيئة والإرادة (٣)
فالفعال لما يشاء هو الله وحده، أما نحن جميعاً فكلنا فعالون لما يشاء الله سبحانه.
فما دام العمل يدخل في المشيئة فهو سيتم قطعاً، لأن الله وحده هو الفعال، لا راد لقضائه.
وما دام العمل لا يدخل في المشيئة فلن يتم قطعاً، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)} [الكهف: ٢٣، ٢٤].
فالله هو الفعّال لما يشاء، وأما الإنسان فليس له من الأمر شيء، والله يريد أن يذكرنا بنعمه، وأن نعلم أن الفضل منه، وأن الذي أعطى يستطيع أن يأخذ، وأن الذي منح يستطيع أن يمنع.
إن الإنسان حين يغتر بقدرته يبطش ويظلم، ويفتك بالضعفاء، ويطغى ويفسد في الأرض.
أما إذا تذكر أن هذا كله من قدرة الله، وأن الله إن شاء منح، وإن شاء أخذ، وإن شاء أعطى، وإن شاء أوقف هذا العطاء، فإن خشيته تدخل في قلبه، فتجعله يراجع نفسه فلا يبغي ولا يظلم، ويخشى الله في كل عمل يعمله، وفي هذا صلاح الكون كله.
وقد فرق الله بين مشيئته ومحبته، فقد يشاء الله ما لا يحبه كمشيئته لخلق إبليس وجنوده، وكل شر ومصيبة ومعصية.
وقد يحب ما لا يشاء كونه، كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء لوجد ذلك كله.
والله سبحانه لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه، فإن المراد نوعان:
مراد لنفسه.
ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير كالطاعات.
والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له.
فالله عزَّ وجلَّ خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الله، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل حيلة، وهو مبغوض للرب لعنه الله ومقته، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إلى الله من عدمها كما ذكرناها آنفاً.
وكل شيء في هذا الكون واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، فإنه سبحانه يخلق ما يحب وما يكره، وهو الحكيم العليم.
فكما أن الأعيان كلها خلقه، وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وذريته، وسائر الأعيان الخبيثة.
وفيها ما يحبه ويرضاه كأنبيائه ورسله، وملائكته وأوليائه.
فهكذا الأفعال كلها خلقه.
ومنها ما هو محبوب له.
ومنها ما هو مكروه له.
فالمحبوب كالطاعات والحسنات، والمبغوض كالمعاصي والسيئات التي خلقها لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان.
والكفر والشرك واقعان بمشيئة الله وقدره، والإيمان والتوحيد واقعان بمشيئة الله وقدره.
وأحدهما محبوب للرب مرضي له.
والآخر مبغوض له مسخوط.
فالإيمان والطاعات والحسنات كلها محبوبة لله، وقد أمر بها.
والشرك والمعاصي والسيئات كلها مكروهة لله، وقد حذر منها.
وكل ذلك واقع بمشيئة الله وقضائه وقدره، لكن الأول محبوب له والآخر مكروه له، والمحبوب والمكروه كله بقضاء الله وقدره كما قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)} [الزمر: ٧].
ومشيئة الله عزَّ وجلَّ هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال.
فقد اقتضت مشيئة الله أن يبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء.
وجعل الله سبحانه هذا القدر موضع ابتلاء وامتحان للبشر.
فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى، والتطلع إليه، والرغبة فيه، فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه سبيله.
ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وآياته فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله ويبعده عن الطريق، وأن يدعه يتخبط في الظلمات.
وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة.
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي شاء أن يهدي هؤلاء، لأنهم أخذوا بأسباب الهدى، وهو الذي شاء ألا يهدي هؤلاء، لأنهم لم يأخذوا بأسباب الهدى.
وهو الذي شاء أن يدع للبشر هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء.
وهو الذي يهديهم إذا جاءوا للهدى.
وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨)} [فاطر: ٨].
والله سبحانه خالق هذا الكون وما فيه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا تعارض بين مشيئة الله وقدره، وبين إرادة الإنسان وعمله.
فإذا قيل أن إرادة الله تدفع الإنسان دفعاً إلى الهدى أو الضلال، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية.
وإذا قيل أن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله، لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية.
بل الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة بين طلاقة المشيئة الإلهية، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي، بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم.
فالذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له، هو من صنع الله قطعاً، فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه.
والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقاً وعسراً، هو من صنع الله قطعاً، لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه، وكلاهما من إرادة الله بالعبد، ولكنها ليست إرادة القهر، إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الإنسان بهذا القدر من الإرادة.
وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)} [الأنعام: ١٢٥].
مختارات

