فقه الإيمان بالقضاء والقدر (٤)
وينبغي أن يعلم الإنسان أن القدر له كالطبيب مع المريض.
فإن قدم إليه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه.
وإن منعه الطعام فرح وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني.
وهذا غاية اللطف من الله تعالى، ومن لم يعتقد هذا لم يصح توكله على الله عزَّ وجلَّ.
والدعاء لا يناقض الرضا بالقدر، فقد تعبدنا الله به، وأمرنا به.
وأمرنا به، وإنكار المعاصي وعدم الرضا بها قد تعبدنا الله به، وذم الراضي به.
فإن قيل: وردت الأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى، والمعاصي بقضائه فكراهتها كراهة لقضائه؟.
وجواب هذا أن يقال: المعاصي لها وجهان:
الأول: وجه إلى الله تعالى من حيث أنها اختياره وإرادته، فنرضى بها من هذا الوجه، تسليماً للملك إلى مالك الملك سبحانه.
الثاني: وجه إلى العبد، من حيث أنها كسبه ووصفه، وعلامة لكونه ممقوتاً عند الله، بغيضاً عنده، حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم.
والإيمان بالقدر على درجتين:
الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، وأهل الجنة منهم، وأهل النار منهم، وأعد لهم الثواب والعقاب قبل خلقهم، وكتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابته كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)} [القمر: ٤٩].
الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها من الإيمان والكفر، والطاعات والمعاصي، وشاءها منهم كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)} [الشمس: ٧، ٨].
والمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب.
والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، ولا يعذر بالقدر من أساء إليه، ولا يذكر القدر عندما تحصل له نعمة.
والواجب على العبد إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله هو يسرها وتفضل بها، فلا يعجب بها، وإذا عمل سيئة، استغفر الله، وتاب منها.
وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد علم أنها مقدرة مقضية عليه لا بد من وقوعها، وللعبد منفعة في حصولها.
وكل ما خلق الله حق، وله سبحانه في كل مخلوق حكمة يحبها ويرضاها.
وهو سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه، فكل خلق وأمر من الله حسن جميل، وهو سبحانه محمود عليه، وله الحمد على كل حال، وإن كان في بعضها شر بالنسبة إلى بعض الناس.
والمؤمن مأمور أن يصبر على المصائب.
ويطيع الأوامر.
ويستغفر من الذنوب والمعائب.
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر في فعل ما يشاء، بل القدر نؤمن به ولا نحتج به، ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً ولا معاقباً: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)} [التغابن: ١١].
وكل شيء سوى الله تعالى فهو مخلوق، وأفعال العباد كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ونفس العبد، وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله عز وجل.
والعبد مأمور منهي، مثاب معاقب، والله جعله حياً مريداً، قادراً فاعلاً، يصوم ويصلي، ويزكي ويحج، ويؤمن ويكفر، ويقتل ويسرق، ويطيع ويعصي، باختياره ومشيئته.
والله خالق ذات العبد وصفاته وأفعاله.
فله مشيئة والله خالق مشيئته، وله قدره والله خالق قدرته، وهو مصل صائم والله خالقه وخالق أفعاله.
والعبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، وهو الفاعل لهذه الأفعال والمتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد كسباً وهي مفعولة للرب كغيرها.
فالله وحده هو الذي له الخلق والأمر، وما سواه مخلوق مربوب.
فهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيضَ، والأسود أسودَ، والساكن ساكناً، والمتحرك متحركاً، والذكر ذكراً، والأنثى أنثى، والحلو حلواً، والمرَّ مراً.
وهو سبحانه الذي جعل المسلم مسلماً، والمطيع طائعاً، والمصلي مصلياً، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)} [السجدة: ٢٤].
وهو سبحانه الذي جعل الكافر كافراً والعاصي عاصياً كما قال سبحانه عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)} [القصص: ٤١].
فالله سبحانه خالق الذوات.
وخالق صفاتها.
وخالق أفعالها.
وكون الله خالقاً للعبد وفعله لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)} [البقرة: ١٢٨].
والله تبارك وتعالى حكيم عليم، له الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء بحكمته، يعطي ويمنع.
ويهدي ويضل.
ويعز ويذل.
ويسعد ويشقي.
ويعفو وينتقم.
وهو الذي جعل المسلم مسلماً، والكافر كافراً، وهذا يدعو إلى الخير، وهذا يدعو إلى الشر.
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة.
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يفعل ما يشاء لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته، وحكمته ورحمته.
ومن حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه.
والله عزَّ وجلَّ له الحجة البالغة على جميع خلقه، حيث أنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول، التي يعرفون بها ربهم، وما شرعه لهم.
ومع هذا فلو شاء سبحانه لهدى الخلق أجمعين إلى اتباع شريعته، كما خلقهم أجمعين، وكما فطر جميع الكائنات على معرفته وعبادته.
لكنه سبحانه يمن على من يشاء، فيهديه فضلاً منه وإحساناً.
ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)} [الأنعام: ١٤٩].
مختارات

