فقه الإيمان بالرسل (٢)
ووظيفة الرسول أداء الرسالة، لا إحداث الخير، ولا إحداث السوء فهذا من أمر الله.
وأمر الناس مع الرسول أن من أطاعه فقد أطاع الله.
ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه، ولم يرسل الرسول ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال، فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول، ولا داخلاً في قدرة الرسول، وإنما ذلك بيد الله وحده: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)} [يونس: ٩٩ - ١٠٠].
فكل ما يحصل في الكون لا يكون إلا بإذن الله وإرادته، وقدره ومشيئته، وكل ما يحصل للناس من الحسنات والسيئات، والنعم والمصائب، فلا يقع إلا بإذن الله وإرادته.
وما يصيبهم من حسنة ونعمة فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته، وفضله وإحسانه.
وما يصيبهم من سيئة ومصيبة فهو من عند أنفسهم، لأنه حصل لهم بسبب تنكبهم عن منهج الله، والإعراض عنه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩)} [النساء: ٧٩].
والإيمان بالرسول:
طاعته فيما أمر.
وتصديقه فيما أخبر.
واجتناب ما نهى عنه وزجر.
وألا بعبد الله إلا بما شرع.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - وظيفته أنه رسول يبلغ ما جاء به من عند الله إلى خلقه، وطاعته فيما يأمر به طاعةً لله.
وليس هناك طريق لطاعة الله غير طاعة رسوله.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي بعد البلاغ والبيان: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: ٤٨].
والأنبياء والرسل هم مصابيح الدجى، وينابيع الهدى في هذه الأرض، فهدى الله للبشر جاء بواسطتهم، وما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الله الكتب إلا ليحكم بها بين الناس بالعدل.
وما قدر الله حق قدره، ولا عرف حكمته ورحمته، وعدله وإحسانه وكرمه وفضله من أنكر بعثة الأنبياء وإرسالهم إلى الناس، فما أسفه هؤلاء وأجهلهم بربهم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)} [الأنعام: ٩١].
وكل هذا جهل بقدر الله سبحانه، فالله العظيم الكريم، العدل الرحيم، العليم الحكيم، لا يدع هذا الإنسان وحده وهو الذي خلقه، ويعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، وحاجته إلى منهج يعتمد عليه، ومبادئ يرجع إليها في أفكاره وأقواله وأفعاله.
ويعلم سبحانه أن العقل الذي أعطاه، لا يستقل بمعرفة ما ينفعه وما يضره، ويتعرض لضغوط كثيرة من رغباته وشهواته، فضلاً على أنه موكل بالاستفادة من طاقات الأرض التي سخرها الله له.
وليس العقل موكلاً بصياغة نظام للحياة، فهذا مجال الدين والشريعة التي تأتي من الله بواسطة رسله فيؤمن بها ويتبع ما جاءت به.
ومن ثم لا يكل الله الإنسان إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع في فطرته من معرفة ربه، وشوقه إليه، ولجوئه إليه في الشدائد.
فهذه الفطرة قد تفسد بسبب المؤثرات، وبسبب الإغواء والتزيين الذي يقوم به شياطين الإنس والجن، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير.
إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله، وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية الظلام والتضليل الذي أصابهم.
وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه.
فما كان الله ليخلق البشرية، ويجمعهم في الأرض، ثم يتركهم سدى، ثم يحاسبهم يوم القيامة، ولم يبعث فيهم رسولاً يبين لهم ما يتقون، وينزل عليهم كتاباً به يهتدون.
بل منَّ الله على البشرية كافة، ببعثة الأنبياء والرسل إليهم كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)} [آل عمران: ١٦٤].
وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره.
وأمروهم بعبادة الله وحده.
وأخبروا أممهم أنهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً.
ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه.
ولا يملكون بسط الرزق أو قبضه لأحد.
وأنذروا قومهم الآخرة.
وما فيها من حساب وجزاء، وثواب وعقاب.
فهذه الأصول التي دعا إليها كل رسول من رسل الله إلى عباده.
والإيمان بالرسل ليس فقط اعتقاد بالقلب، بل هو مع ذلك عمل إيجابي في تنفيذ جميع ما جاءوا به، في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه.
وهو إبلاغ رسالة الله إلى عباده.
فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ودينه وشرعه مقتضاه أن ينهض المؤمن لينصر ما آمن به، وليقيمه في الأرض، وليحققه في حياة الناس كافة.
وذلك يحتاج إلى دعوة وبذل الأنفس والأموال والأوقات لنشره في العالم، ويحتاج إلى نصرة وجهاد لتحقيقه، ولحمايته من أعدائه بعد تحقيقه.
إن الإيمان بالرسل والإقرار بالرسالة والعمل بموجبها هو الذي يجعل هناك قاعدة لما يريده الله من البشر، كي يتلقى البشر كل ما يتعلق بالعبودية لله من مصدر واحد.
هذا المصدر الأمين الذي اصطفاه الله واجتباه هم فقط الأنبياء والرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى عباده.
وذلك حتى لا يقوم كل طاغوت مفترٍ، يقول للناس قولاً، ويشرع للناس شرعاً، ثم يزعم أن الله شرعه وأمر به.
بينما هو يفتريه من عند نفسه، وفي كل جاهلية في الأرض يقوم بين الناس من يشرع الشرائع والنظم، ثم يقول هذا من عند الله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)} [البقرة: ٧٩].
وما يحسم هذه الفوضى، وهذا الاحتيال على الناس باسم الله، إلا أن يكون هناك مصدر واحد مبلغ عن الله هم رسله الذين اختارهم وأرسلهم.
وما أعظم جرم هؤلاء الناس الذين يفترون على الله الكذب، ويضلون الناس بباطلهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)} [الأنعام: ١٤٤].
إن الدين عند الله الإسلام، والشرائع السماوية يكمل بعضها بعضاً، ومقصودها الإيمان بالله، والتسليم له في كل شيء، وعبادته وحده لا شريك له، واجتناب عبادة ما سواه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)} [آل عمران: ١٧٩].
والشرائع السماوية السابقة كلها أكملها الله بالإسلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليكمل اللبنة الناقصة في البناء الإيماني، ليكمل البناء، ويكون صالحاً مفتوحاً لكل فرد من البشرية إلى يوم القيامة، وإنها لنعمة كبرى من الكريم على خلقه لو كانوا يفقهون: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قال: فَأنَا اللَّبِنَةُ، وَأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» متفق عليه (١).
فما أعظم فضل الرب على الناس.
وما أعظم رحمته لهم.
وما أعظم عنايته بهم.
يرسل إليهم رسولاً بعد رسول.
وينزل عليهم أمراً بعد أمر.
ويهديهم بكتاب بعد كتاب.
حتى أكمل الله الدين.
وبعث به رسول الله خاتم النبيين.
ورضيه منهاجاً للحياة إلى يوم الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)} [آل عمران: ٨٥].
فيا لها من نعمة ما أعظمها، وتكرمة ما أجلها، وحلية ما أحسنها.
وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غيره عذب به.
فمن يشعر ويحس بقيمة هذه النعمة الكبرى؟: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)} [غافر: ٦١].
إن البداية من الله.
وإن البقاء في الدنيا بأمر الله.
وإن النهاية إلى الله.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
فلا حل ولا نجاة ولا فلاح للبشرية في الدنيا والآخرة إلا بالتسليم لله وطاعته وعبادته وحده لا شريك له: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)} [الأحزاب: ٧١].
وقد ألقى الله سبحانه على الأنبياء والرسل تبعة ثقيلة عظيمة، وألقاها من بعدهم على المؤمنين برسالاتهم تجاه البشرية كلها.
وهي تبعة عظيمة ثقيلة بمقدار ما هي جسيمة وكبيرة.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٥٣٥) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٢٨٦).
مختارات

