فقه الإيمان بالكتب (٣)
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية التي آمنت به وحكمته، واستجابت لأوامره.
فهذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود.
ووجهت به أحداث واقعية في حياة الأمة.
واستقامت به حياة إنسانية في هذه الأرض.
وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس الإنسانية، وفي رقعة من الأرض كذلك.
فكانت النتائج طيبة مباركة، سعادة من تمسك به في الدنيا والآخرة، وخذلان من خالفه وشقاءه في الدنيا والآخرة.
ذلك هو جيل الصحابة الذين تلقوا الدين والإيمان مباشرة قلبياً وعملياً من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والقرآن هو القرآن.
والإنسان ما يزال هو الإنسان.
والقرآن هو خطاب الله لكل إنسان إلى يوم القيامة.
فالكون يتحرك بأمر الله الكوني القدري، والإنسان كذلك يجب أن يتحرك بأمر الله الديني الشرعي، ليوافق الكائنات في العبادة والطاعة، فالكون له أوامر.
والإنسان له أوامر.
وكل إليه راجعون.
فهل نستفيد من القرآن كما استفاد الصحابة؟، وهل نعمل به كما عملوا لنسعد في الدنيا والآخرة؟.
يا ويح البشرية إن الدواء والشفاء الذي يشفيها من عللها وأمراضها موجود بين أيديها ولكنها لا تستفيد منه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)} [المائدة: ١٥، ١٦].
وتلك مصيبة، ومصيبة أعظم منها، أنها تطلب شفاءها وسعادتها فيما يزيد آلامها، ويوسع جراحها، ويشقيها في الدنيا والآخرة، مما يخالف كتاب ربها وهدى نبيها - صلى الله عليه وسلم -، من قوانين الأمم الكافرة الأخرى.
فماذا أعد الله لهؤلاء في الدنيا والآخرة؟: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤)} [الرعد: ٣٤].
ما الذي دهى كثيراً من المسلمين حتى رفعوا أحكام القرآن من واقع الحياة؟، وما الذي صرفهم عن مصدر عزهم وسعادتهم؟.
لقد كان هذا القرآن العظيم هو مصدر المعرفة والتربية، والتوجيه والتكوين، لجيل من البشر فريد، وهو جيل الصحابة الكرام.
لقد أنشأ الله بمشيئته وقدرته بهذا الكتاب تلك المعجزة المجسمة في عالم البشر، وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي معجزة واقعة مشهودة، وذلك المجتمع الفريد كانت تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب العزيز.
وكان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية لما يتحلى به من مكارم الأخلاق وحسن الآداب، التي رضي الله عنهم بها، ورضوا عنه، وكانوا بإيمانهم وأخلاقهم وأعمالهم قدوة ورحمة للبشرية فرضي الله عنهم أجمعين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)} [التوبة: ١٠٠].
والمجتمعات التي تفوق المسلمين في الإمكانات المادية، لا تطاولهم في الإيمان والأخلاق الكريمة العالية، وحياة اليوم كالأمس.
فهل تحكم الأمة كتاب ربها ليعزها ويرفع ما بها من ذل؟.
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠)} [الأنبياء: ١٠].
وإذا هجرت الأمة كتاب ربها.
وسكت العلماء عن بيان الحق وأحكام الدين.
وقعد الدعاة عن نشر الدين بين الأمم.
واشتغل الناس بالأموال والأشياء.
وزهدوا في الإيمان والأعمال.
وفقد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
ونقضت الأمة عهد ربها وميثاقه.
إذا حصل هذا في الأمة فقد أحلت بنفسها غضب الله وسخطه، واستوجبت عقوبته: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)} [الأنعام: ٤٤، ٤٥].
لقد عاشت الأمة الإسلامية أزهى عصورها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وعهد خلفائه الراشدين، ولكن سرعان ما تصدع جدار الإيمان والتوحيد من بعدهم، فانقطعوا عن مصدر عزهم، فخضعت رقابهم وديارهم لعدوهم.
فأصبحت الأمة من بعدهم بحاجة ماسة للعودة إلى مصدر عزها، حيث نالتها الضربات والأوجاع من كل ناحية.
وكم كاد الكائدون لهذا الدين، وهذا القرآن بوسائل خفية عنيفة مستمرة طويلة الأمد، وطرق خبيثة ماكرة لئيمة، وحشدت لذلك الطاقات والأفكار، والأموال والحديد والنار؟.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨)} [الصف: ٨].
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا.
وارزقنا حسن تلاوته، وحسن العمل به، وحسن الدعوة إليه.
مختارات

