فقه الفكر والاعتبار (٤)
والمحب الذي قد ملك المحبوب أفكار قلبه، لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه وهو ربه سبحانه، أو بنفسه.
وفكره في محبوبه لا يخرج عن حالين:
إحداهما: فكره في جمال الرب وجلاله، وأسمائه وصفاته.
الثانية: فكره في أفعاله وإحسانه، وبره ولطفه.
وإن تعلق فكره بنفسه فكذلك لم يخرج عن حالين:
فإما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها فيتجنبها، وإما أن يفكر في الصفات والأفعال والأخلاق التي تقربه منه، وتحببه إليه، لكي يتصف بها.
فالأوليان توجب له زيادة محبته لربه، وتعظيمه، والخضوع له.
والأخريان توجب له محبة محبوبه له، وإقباله عليه، وقربه منه، وعطفه عليه، وإيثاره على غيره، وإسعاده في الدنيا والآخرة.
فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة.
ومجاري الفكر في صفات نفسه وأفعالها كثيرة، ويمكن حصرها في ستة أجناس:
الطاعات الظاهرة والباطنة، فيتفكر في معرفتها، وأدائها، وتحسينها، ودوامها، والإكثار منها، وترغيب الناس فيها.
والمعاصي الظاهرة والباطنة، فيتفكر كيف يعرفها، ويحذر منها، ويقلع عنها، ويتوب منها، ويحذر الناس منها.
والصفات والأخلاق الحميدة، يتفكر كيف يعرفها، ويتخلق بها، ويدعو الناس إليها، ليتجملوا بها.
والصفات والأخلاق السيئة، يتفكر كيف يعرفها، ويحذرها، ويحذر الناس منها.
وأما الفكر في أسماء الرب وصفاته، وفي أفعاله وأحكامه:
فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر.
والتوحيد والشرك.
ووصفه بما هو أهله من العزة والجبروت.
والكبرياء والعظمة.
والجلال والإكرام.
وتنزيهه عما لا يليق به.
وجماع ذلك الفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر.
فيكون فقيهاً في أسماء الله وصفاته.
فقيهاً في أوامر الله ونواهيه.
فقيهاً في قضاء الله وقدره.
فقيهاً في الأوامر الكونية القدرية.
فقيهاً في الأحكام الدينية الشرعية.
فقيهاً في دنياه وأخراه.
فقيهاً في الاستفادة من أوقاته.
ومن طلب ذلك ساقه الله إليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)} [العنكبوت: ٦٩].
ومن وفقه الله لذلك عرف ربه، وعرف ما يوصل إليه، وعرف ما له من الثواب والإكرام بعد القدوم عليه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)} [الحديد: ٢١].
ولا شيء أنفع للقلب من تدبر كلام الله عزَّ وجلَّ، والتفكر فيه، فهو الذي يولد التعظيم للمعبود، ويورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله واستنارته.
وكذلك تدبر القرآن يزجر العبد عن جميع الصفات المذمومة، والأفعال السيئة التي يحصل بها فساد القلب وهلاكه.
فعلى الإنسان أن يتفكر في آيات ربه المسموعة وهي القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩)} [ص: ٢٩].
ويتفكر في آياته المشهودة وهي المخلوقات كما قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)} [يونس: ١٠١]
إن النظر والتدبر والتفكر من أعظم أنواع العبادة.
إن هذا الكون العظيم معرض هائل واسع لإبداع قدرة الرب، وعظمه خلقه، وتذكير بالخالق المبدع الذي خلق كل شيء.
وذلك يبهر الإنسان، ويشعره بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً.
إن الله عزَّ وجلَّ كما ينزل من السماء ماءً.
فينبت به زرعاً مختلفاً ألوانه.
كذلك أنزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية.
فتنفتح له، وتنشرح به.
وتتحرك حركة الحياة بالحسن والجميل من الأقوال والأعمال.
والأخلاق والآداب.
وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقى الماء الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)} [الرعد: ٣].
والله حكيم عليم، له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر، وهو الجواد الكريم على عباده: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)} [البقرة: ٢٤٣].
وحقوق الله تبارك وتعالى على العباد نوعان:
أحدهما: أمره ونهيه، الذي هو محض حقه على العباد، ويتم بعبادته وحده لا شريك له، وطاعته في كل حال.
الثاني: شكر نعمه التي أنعم بها عليهم.
فهو سبحانه يطالبهم بشكر نعمه، والقيام بأمره.
فمشهد الواجب على العبد لا يزال يُشهده تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك.
وكلما كان أفقه في دين الله، كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم.
فينشأ من ذلك التشمير للعمل.
ودوام الاستقامة على أوامر الله.
وكثرة التوبة والاستغفار.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» متفق عليه (١).
فما أعظم نعم الله على عباده، وما أحسن ما دعاهم إليه من النظر في الآيات الكونية.
والنظر في الآيات القرآنية.
وفي النظر فيهما يكمل الإيمان.
وتكمل الأعمال الصالحة.
وتحسن الأخلاق.
ويكمل اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلى دينه وشرعه.
وعلى وعده ووعيده.
وأفضل الناس توفيقاً.
وأكملهم توحيداً.
وأحسنهم تقوى.
من قرأ وعلم.
وسمع وأبصر.
وتفكر وتدبر.
وتذكر وتعقل.
ونظر وتأمل في آيات ربه المشهودة والمسموعة.
واستقام على دينه وشرعه.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)} [فصلت: ٣٠ - ٣٣]
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧١)، ومسلم برقم (١٠٣٧).
مختارات

