فقه الإيمان بالكتب (٢)
والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وأفضلها وأكملها، أنزله الله عزَّ وجلَّ على خاتم رسله، وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)} [النحل: ٨٩].
فالقرآن العظيم أفضل الكتب.
نزل به أفضل الملائكة وهو جبريل.
على أفضل الخلق وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
على أفضل أمة أخرجت للناس وهي هذه الأمة.
بأفضل الألسنة وأفصحها وهو اللسان العربي المبين.
بأفضل شريعة وأكملها وهي ما فيه من الأحكام والسنن والآداب.
فيجب على كل أحد الإيمان به والعمل بأحكامه والتأدب بآدابه.
ولا يقبل الله العمل بغيره بعد نزوله، وقد تكفل الله بحفظه، فسلم من التحريف والتبديل، ومن الزيادة والنقصان كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر: ٩].
وكتاب الله ومنهجه وشرعه للبشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)} [إبراهيم: ٥٢].
فلله الحمد والشكر، وله المنّة والفضل حيث أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا أفضل كتبه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)} [آل عمران: ١٦٤].
وقد وصف الله عزَّ وجلَّ القرآن الكريم بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه، وجلالة قدره وعظمته فقال سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)} [الواقعة: ٧٧ - ٨٠].
والكريم: هو البهي الحسن، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أفضله وأحسنه.
وقد وصف الله نفسه بالكريم.
ووصف كتابه بالكريم.
ووصف عرشه بالكريم.
ووصف رسوله الملكي جبريل بالكريم.
ووصف رسوله البشري محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالكريم.
والقرآن الكريم لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة بنجاسة البدع والشرك والمعاصي أن تنال معانيه أو تفهمه كما ينبغي.
إن القرآن الكريم كلام الله عزَّ وجلَّ، فلا يفهمه ولا يجد طعمه إلا من آمن به، ولا يلتذ به وبقراءته وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله، تكلم به حقاً، وأنزله على رسوله وحياً.
ولا ينال بركته ولا يستفيد من معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه فهو كتاب جليل القدر عظيم النفع، حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكم مفصل.
أصدق الكلام وأحسنه وأكمله:
فيه الأمر والنهي.
والوعد والوعيد.
والثواب والعقاب، تطمئن به القلوب.
وتنشرح له الصدور.
أنزله الله هدى ونوراً وشفاء للبشرية إلى يوم القيامة: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)} [الأعراف: ٢].
فمن لم يؤمن بأن الله تكلم به وحياً ففي قلبه حرج منه.
ومن لم يؤمن بأنه حق من عند الله ففي قلبه حرج منه.
ومن قال إن له باطناً يخالف ظاهره ففي قلبه حرج منه.
ومن قال إن له تأويلاً لا نفهمه ولا نعلمه، وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه حرج منه.
ومن سلط عليه الآراء الشاذة، وجعله تابعاً لنحلته ومذهبه تعصباً، في قلبه حرج منه.
ومن لم يأتمر بأمره، وينزجر عن زواجره، ويصدق أخباره، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويرد ما سوى ذلك، ففي قلبه حرج منه.
ومن لم يحكمه ظاهراً وباطناً في جميع شعب الحياة، ويسلم وينقاد لحكمه أيا كان وأين كان، ففي قلبه حرج منه.
وكل كتاب من كتب الله عزَّ وجلَّ جاء بثلاثة أمور:
الأول: تعريف الناس بربهم ليعبدوه ويطيعوه، ويجتنبوا عبادة ما سواه.
الثاني: تعريفهم بالطريق الموصل إليه، والذي يحبه ويرضاه، وهو شرعه الذي أرسل به رسله، وما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي.
الثالث: تعريفهم بحالهم بعد القدوم على ربهم بعد الموت، فللمؤمنين بالله الجنة، وللكفار النار، كل يجازى بحسب عمله.
والشرائع التي أنزل الله ثلاث:
شريعة عدل: وهي شريعة التوراة، فيها الحكم والقصاص بالعدل، وهي شريعة الجلال والقهر.
وشريعة فضل: وهي شريعة الإنجيل، وهي مشتملة على العفو ومكارم الأخلاق، والصفح والإحسان، فهي شريعة الجمال والفضل والإحسان.
وشريعة جمعت هذا.
وهذا (العدل والإحسان)، وهي شريعة القرآن.
فإنه يذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه، ويذكر الظلم ويحرمه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)} [النحل: ٩٠].
وقال سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)} [الشورى: ٤٠].
وقد أرسل الله بهذه الشريعة محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
فشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءت في مظهر الكمال، الجامع للجلال والجمال، جمعت بين العدل والشدة في الله، وبين اللين والرأفة والرحمة في الله.
فشريعة موسى جاءت بالجلال.
وشريعة عيسى جاءت بالجمال.
وشريعة محمد جاءت بالكمال الجامع للجلال والجمال.
ولهذا رضيها الله للبشر ديناً إلى يوم القيامة.
فشريعته - صلى الله عليه وسلم - أكمل الشرائع، وهو أفضل الأنبياء وأكملهم، وأمته أكمل الأمم، وكتابه أحسن الكتب.
فهو سيد الأنبياء وخاتمهم.
وأمته أفضل الأمم وآخرها.
وكتابه أفضل الكتب وأحسنها.
وشريعته أكمل الشرائع وآخرها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)} [آل عمران: ٨٥].
فصلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورسله، وعلى سيد الخلق نبينا محمد، الذي يحمده لجمال صفاته أهل السماء والأرض، أحمد الخلق لربه، وأحق بأن يحمد أكثر من غيره، فقد جاء من ربه بأعظم شرع، وأحسن كتاب.
وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن القرآن الكريم:
بأنه ذكر للعالمين بقوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧)} [التكوير: ٢٧].
وأنه تذكرة للمتقين بقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)} [الحاقة: ٤٨].
وأنه ذكر مبارك بقوله سبحانه: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)} [الأنبياء: ٥٠].
فالقرآن الكريم ذكر للعالم أجمع، فهو المنهج الكامل الوحيد الذي يسعدون باتباعه في الدنيا والآخرة.
وهو ذكر لأهل الإيمان والتقوى، فهو هدى وذكرى.
يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم.
ويذكرهم بالمبدأ والمعاد.
ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده.
ويذكرهم بالخير ليفعلوه.
ويذكرهم بالشر ليجتنبوه.
ويذكرهم بنفوسهم وآفاتها وما تكمل به.
ويذكرهم بعدوهم، وما يريد منهم، ومن أي الطرق يأتي إليهم؟، وبماذا يحترزون من كيده؟.
ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إلى ربهم، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه لحظة أبداً.
ويذكرهم بنعم الله عليهم ليشكروه، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها.
ويذكرهم برحمته وعفوه ليقبلوا عليه، ويتوبوا إليه.
ويذكرهم بأسه وشدة بطشه وانتقامه، ممن عصى أمره، وكذب رسله، ليخافوه ويهابوه ويطيعوه.
ويذكرهم بثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه ليقبلوا على ما ينفعهم، ويحذروا مما يضرهم، وينافسوا في الخيرات.
ويذكرهم بما يحل لهم وما يحرم عليهم، وما يحبه الرب وما يبغضه.
ويذكرهم بصفات أوليائه ليفعلوها ويتحلوا بها.
ويذكرهم بصفات أعدائه ليجتنبوها ويحذروا منها.
ويذكرهم بعاقبة هؤلاء وهؤلاء.
ولهذا يأمر الله عباده أن يذكروا ما في كتابه من المواعظ والشرائع والأحكام وأن يأخذوها بقوة كما قال سبحانه: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)} [الأعراف: ١٧١].
وكون القرآن ذكراً للعالمين كلهم غير جهة كونه ذكراً للمتقين، فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة، وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع.
والكون كتاب الله المنظور.
والقرآن كتاب الله المقروء.
وكلاهما دليل على الخلاق العليم، كما أن كليهما كائن ليعمل.
فالكون كله بما فيه من مخلوقات ما زال يتحرك، ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه بطاعة تامة لربه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)} [النحل: ٤٩ - ٥٠].
مختارات

