فقه اليقين (٢)
ويقين البشر على قسمين:
أحدها: يقين على الله، وهذا يقين المؤمنين، وهذا اليقين يولد الطاعة والمحبة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإقبال على الله، والتوجه إليه في جميع الأحوال.
الثاني: يقين على الأسباب والأشياء، وهذا يقين الكفار، وهذا اليقين يولد عند الإنسان الاعتماد على الأسباب، والدعوة إلى الأسباب، والتوجه إليها في جميع الأحوال.
وبسبب هذا اليقين يغفل الإنسان عن مراد الله منه، وعن مراده من الله، ويشغل بدنياه عن آخرته، فيشقى في دنياه، ويخسر آخرته.
واليقين على شيء بجعل الإنسان يتوجه إليه، ويعتمد عليه، سواء كان مالاً، أو جاهاً، أو علماً، أو قوة، أو طعاماً، أو صنماً، أو دواءً.
ولما كان الاعتماد على هذه الأشياء من دون الله في قضاء الحاجات شركاً بالله.
لذا يجب نفي تأثير جميع المخلوقات والأشياء، وإثبات اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته ودينه، فهو الفعّال لما يشاء، وغيره لا يفعل شيئاً إلا بإذنه، فهو سبحانه الذي {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)} [الرعد: ٢].
ولهذا لا ينتفع بالقرآن حقاً إلا من نفى تأثير هذه الأشياء النفي الكامل، وجاء عنده اليقين على الله وحده، وتكل عليه وحده، وفوض الأمور كلها إلى الله وحده، كما قال سبحانه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)} [الجاثية: ٢٠].
فمن آمن بالله وحده.
وسلم نفسه لله وحده.
وتوكل على الله وحده.
وصبر على ذلك.
نصره الله.
وسخر له الكائنات.
واستخلفه في الأرض.
وأسعده في الدنيا والآخرة.
وجعله داعياً إلى الله وإلى دينه.
كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)} [السجدة: ٢٤].
فبطاعة الله ورسوله، وامتثال الأوامر الشرعية، تقضى الحاجات، وتحل مشاكل الدنيا والآخرة، لا بالأموال والأسباب.
وأهل الجاهلية كان عندهم مرضان خطيران:
الأول: اليقين على الأسباب والأصنام، فاجتهد عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج من قلوبهم يقين الأسباب، ويقين الأصنام، إلى اليقين على الله وحده لا شريك له.
الثاني: كان عندهم مرض آخر، وهو أن قاضي الحاجات هو الأسباب.
فالله عزَّ وجلَّ أعطاهم الأوامر لقضاء حاجاتهم، فأخرج لهم الحوت العظيم من البحر.
وأنزل لهم بصلاة الاستسقاء الماء من السماء.
وأخرج لهم الماء في الحديبية من بين أصابع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ورأوا البركة في الطعام والماء واللبن بسبب امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، وقضى الله حاجاتهم ونصرهم مع قلة الأسباب أو عدمها.
وبسبب الدعوة إلى الله يزيد الإيمان، ويخرج اليقين من على الأسباب إلى اليقين على الأعمال والأوامر كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)} [الأعراف: ٩٦].
ويسهل خروج اليقين على الأصنام، لكن يقين الأسباب لا يخرج إلا بالمجاهدة المستمرة، والتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.
والله عزَّ وجلَّ جعل القلوب مكان الإيمان واليقين والتوحيد، وأعطى الأجسام لامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.
وحتى يمشي الإنسان على أوامر الله أنزل الله القرآن الذي فيه أوامر الدين، وأوامر جهد الدين.
ولكي يمشي المسلم على أوامر الله ويؤديها على ما يحب الله، أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - قدوة للناس كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
وإذا كان يقين المسلم على ربه قوياً فلن يقف له شيء، لأن الله معه، وإذا كان الله معه فمن ذا يقف له؟.
ومن ذا يستهين به؟.
وإذا نزعنا من قلوبنا اليقين على المخلوقات سلب الله قوتها وسخرها لنا، فماذا قال أصحاب موسى، وماذا قال موسى.
؟، حين رأوا البحر وفرعون وقومه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)} [الشعراء: ٦١، ٦٢].
فلما سلب موسى اليقين على الماء والعدو وتوكل على الله وحده، جاءته نصرة الله فوراً، فانفلق له البحر، فأنجى الله موسى ومن آمن معه، وأهلك عدوه بهذا البحر في آن واحد، أمر بالنجاة، وأمر بالهلاك كما قال سبحانه: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)} [الشعراء: ٦٣ - ٦٨].
ومن كان يقينه على غير الله سلطه الله عليه وأذله به وخذله من جهته كما أذل الله قوم نوح مع كثرتهم، وعاداً مع قوتهم، وفرعون مع ملكه، وقارون مع ماله.
والمؤمن في يقينه على ربه كالطير، فما دام الطير في الأرض، يرى كل شيء كبيراً، ويخاف من أي شيء، فإذا حلق في السماء، رأى كل شيء صغيراً، ولا يخاف من أحد لأنه ترقى في علو السماء.
فكذلك المسلم ما دام متأثراً بالمخلوق فهو دائماً في خوف، فإذا تعلق بالله وتوكل عليه وحده سقط من عينه المخلوق مهما كان، ومهما كانت قوته.
فالمؤمن إذا جاء عنده اليقين، وعرف حقيقة الإيمان رأى الدنيا ومن فيها صغيراً حقيراً فانياً، واستغنى بربه عما سواه، الذي هو خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير، وبيده الأمر كله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)} [الزمر: ٦٢].
وإذا جاء اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، ووعده ووعيده، أقبل المسلم على ربه، وتلذذ بطاعته، ونفر من معصيته، وسارع إلى ما يرضيه، وجفل مما يغضبه، واستغنى بربه عما سواه.
مختارات

