فقه اليقين (١)
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)} [السجدة: ٢٤].
وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)} [الرعد: ٢].
اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، فاليقين روح أعمال القلوب، التي هي روح أعمال الجوارح.
ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك، وكل سخط وحيرة، وكل هم وغم.
وإذا وصل اليقين إلى القلب امتلأ بمحبة الله.
والخوف منه.
والرضا به.
والشكر له.
والتوكل عليه.
والإنابة إليه.
والتوجه إليه.
والأنس به.
وعدم الالتفات إلى غيره.
واليقين لا يساكن قلباً فيه سكون لغير الله.
واليقين: هو ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين.
فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً.
وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان.
ومن علامات اليقين:
النظر إلى الله في كل شيء.
والرجوع إليه في كل أمر.
والاستعانة به في كل حال.
والالفتات إليه في كل نازلة.
والإنس به في كل وقت.
وإرادة وجهه في كل حركة وسكون.
وعدم الالتفات عنه إلى غيره في كل حال.
وإذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء عنده مصيبة؛ لأن البلاء يرده إلى معبوده، والرخاء يشغله عن معبوده غالباً.
واليقين على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق سبحانه من أوامره ونواهيه ودينه وشرعه الذي ظهر لنا منه، وعلمناه بواسطة رسله، فنتلقاه بالقبول والتسليم والانقياد.
وقبول ما غاب للحق، وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمور المعاد كالجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ورج الأرض، ونسف الجبال، وطي العالم، وما قبل ذلك من أمور البرزخ، وعذاب القبر ونعيمه.
فقبول هذا كله إيماناً وتصديقاً هو علم اليقين، بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا ريب.
والوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، ونعوت كماله، وتوحديه.
وهذه الثلاثة أشرف العلوم:
علم الأسماء والصفات والتوحيد.
وعلم الأمر والنهي.
وعلم المعاد واليوم الآخر.
الدرجة الثانية: عين اليقين، وهو رؤية الشيء عياناً، فعلمنا الآن بالجنة والنار علم يقين، فإذا أزلفت الجنة للمتقين، وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين، وعاينها الخلائق، فذلك عين اليقين.
الدرجة الثالثة: حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين، وهي مباشرة الشيء والإحساس به، كما إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وتمتعوا بما فيها من ألوان النعيم، وأدخل أهل النار النار، وذاقوا ما فيها من ألوان العذاب، فذلك حينئذ حق اليقين.
فعلم اليقين بالقلب، وعين اليقين بالبصر، وحق اليقين بالمباشرة والتذوق والإحساس، ومعرفة القلب، ورؤية البصر.
وقد شبهت المراتب الثلاث بمن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقيناً، ثم ذقت منه.
فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين.
ويحصل اليقين للإنسان من أربعة أبواب:
السمع.
والبصر.
والكلام.
والفكر.
فإذا سمع الإنسان كلام الله ورسوله تأثر بذلك.
وإذا نظر إلى آيات الله الكونية وآياته الشرعية تأثر بذلك.
وإذا تفكر في عظمة الله وكبريائه، وعظمه مخلوقاته وأفعاله تأثر بذلك.
وإذا تكلم في عظمة الله، وعظمه أسمائه وصفاته، وتحدث بنعمه وآلائه جاء عنده اليقين، وتأثر بذلك.
فإذا استعمل الإنسان هذه القوى في معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله تأثر القلب فجاء عنده اليقين على ربه، ولم يلتفت لغيره.
فاليقين يورث التأثر.
ثم يأتي التوجه إلى الله.
ثم تأتي الرغبة في الأعمال الصالحة.
ثم تأتي السعادة في الدنيا والآخرة.
واليقين لا يحصل إلا بالمجاهدة، فالقائم على النار يخاف منها ولا يلتفت إلى سواها، فكيف إذا وقف أمام الخالق الجبار كيف لا يخافه هيبةً وإجلالاً وتعظيماً.
والطفل الصغير إذا أراد شيئاً من أمه أو أبيه سأله بيقين، لأنه لا يعرف غيرهما، فكذلك المسلم إذا سأل ربه باليقين، ولم يلتفت إلى غيره أجابه كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].
والبكاء سبب لحصول المراد، فالطفل يبكي كلما أراد شيئاً من أمه أو أبيه، ولا يزال يبكي حتى يحصل على ما يريد.
وكذلك المسلم يبكي أمام الله خاشعاً ذليلاً، مستغفراً متضرعاً حتى يستجاب له كما قال سبحانه عن عباده المؤمنين: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)} [الإسراء: ١٠٩].
مختارات

