فقه الإيمان بالله (١٣)
والإيمان بالله وتقواه متصل بواقع الحياة، وما بعد الحياة، مؤهل لفيض بركات السماء والأرض كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧)} [الأعراف: ٩٦،٩٧].
والإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة، وسلامة في أجهزة الاستقبال، وصدق في الإدراك الإنساني.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكائن البشري كله، وتتجه به إلى وجهة واحدة، تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئة الله في خلافة الأرض وعمارتها، ودفع الفساد والفتنة عنها.
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى.
ومن العبودية للعبيد.
ومن تحرر من ذلك فهو أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة، من العبيد للهوى، ولبعضهم بعضاً.
وتقوى الله يقظة واعية، تصون من الاندفاع والتهور والغرور، وتوجه الجهد البشري وتضبطه، فلا يعتدي ولا يتهور، ولا يتجاوز الحدود.
والله عزَّ وجلَّ يريد من البشر أن تسير حياتهم هكذا، إيان وتقوى، متحررة من الهوى والطغيان البشري، خاشعة لله، تسير سيرة صالحة منتجة، تستحق مدد الله بعد رضاه، فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، وتنعم يالأمن.
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون ألوان شتى:
فهي بركات بكل أنواعها وألوانها وأشكالها.
مما يخطر ببال الخلق.
وما لا يخطر ببالهم.
بركات في الدنيا، وبركات في الآخرة.
بركات في الأقوال والأعمال.
وبركات في الأنفس والأموال.
وبركات في الأوقات والأخلاق.
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، هؤلاء لا يعرفون الإيمان، ولا يعرفون الحياة، ولا يستفيدون من الإيمان.
وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله سبحانه، وكفى بالله شهيداً: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)} [المائدة: ٦٥، ٦٦].
والنفس البشرية حين تستقر فيها حقيقة الإيمان، تستعلى على قوة الأرض، وتستهين بيأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على حب الحياة.
والإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع هو الإيمان الذي باشر القلب، الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه، فيطمئن إلى جواره كما قال السحرة لفرعون: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)} [الأعراف: ١٢٥، ١٢٦].
إن المؤمن الذي يعرف إلى من يتجه؟.
وإلى أين هو صائر؟.
لا يطلب من خصمه السلامة والعافية.
إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة.
والوفاة على الإسلام: {رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)} [الأعراف: ١٢٦].
ويقف الكفر والطغيان عاجزاً أمام قوة الإيمان.
وثقف عاجزاً أمام القلوب التي خيل اليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب.
ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام.
فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله.
وماذا يملك الطغاة إذا رغبت القلوب المؤمنة في جوار الله؟.
وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟.
وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عن السلطان؟.
إنه لا يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة، ولا يمن أن يصبروا على ما ينتظرهم من التعذيب والتنكيل إلا بوجود اليقين بشقيه: أنهم المؤمنون.
وأن أعداءهم الكافرون.
وبهذا اليقين وبهذا التميز تأتي البركات والعواقب الحميدة للمؤمنين.
والإيمان هو نفي كل شيء عن غير الله.
وإثبات كل شيء لله.
فهو الذي بيده كل شيء.
وغيره ليس بيده شيء.
ولا يمكن أن يجتمع في قلب واحد، الإيمان بالله وتوحيده، والتوكل على غيره.
والتوكل على الله وحده لا يمنع من اتخاذ الأسباب، فالمؤمن يتخذ الأٍباب من باب الإيمان باله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج، فيتكل عليها.
فالذي خلق الأسباب، وأنشأ النتائج هو الله وحده، ولا علاقة بين السبب والنتيجة ي شعور المؤمن، فالكل بيد الله.
والله عزَّ وجلَّ فعّال لما يشاء.
يفعل بالأسباب.
وبضد الأسباب.
وبدون الأسباب.
كما جعل الوطء سبباً للإنجاب، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما يقول للشيء كن فيكون، فالله لا يعجزه شيء.
وبذلك يتخلص شعور المؤمن من التعبد للأسباب، والتعلق بها.
وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته، لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد فيه حمل للتوكل على غير الله ابتداء، وقدر الله هو الذي يحدث ما يحدث، والأسباب مخلوقة مأمورة، فالتوكل ينبغي أن يكون على من بيده أزمة الأمور: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)} [التغابن: ١٣].
مختارات

