فقه الإيمان بالله (١٢)
والمؤمنون يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، لأنهم يعرفون أنهم صائرون إليه، فيقبلون على طاعته، ويطلبون مغفرته كما قال سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)} [البقرة: ٢٨٥].
فالإيمان يولد السمع والطاعة لله ورسوله.
السمع لكل ما جاء من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله.
وهم مع السمع والطاعة يشعرون بالتقصير، والعجز عن توفية نعم الله حق شكرها، وفرائض الله حق أدائها، فيطلبون مغفرته من التقصير، وتداركهم برحمته، لأنهم يعرفون عظيم حقه، ومقدار تقصيرهم في حقه.
وطلب الغفران إنما يكون بعد الاستسلام لله، وإعلان السمع والطاعة له، واليقين بأن المصير إليه سبحانه في الدنيا والآخرة.
المصير إليه في الدنيا في كل أمر وفي كل عمل، فلا منجى من الله إلا إليه، ولا عاصم من قدره ولا نجاة من عقابه، إلا برحمته وغفرانه.
والمصير إليه في الآخرة فالخلق لله، وهم إليه راجعون، فمن قدم بالإيمان أدخله الجنة، ومن جاء بالكفر والمعاصي أدخله النار.
وإذا جاء الإيمان في حياة الإنسان جاءت التقوى.
والتقوى: هي الاستقامة والخوف من الله وحده، ومراقبته وحده في جميع الأحوال.
وتقوى الله هي التي تربط القلوب بالله، وحين يتصل القلب بالله فإنه سيعظم ربه، ويتمثل أمره، ويحقر كل قوة غير قوته.
والإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
وما أسرع زوال الإيمان أو ضعفه عند لذعة المصائب، ومواهة الأخطار، ولسعة الحوادث المؤلمة إلا من ثبته الله وأعانه.
فمن الناس من هو ضعيف الإيمان، إن أصابه خير اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه، أو زوال محبوب ارتد عن دينه، فما أخسر هذا في الدنيا والآخرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١)} [الحج: ١١].
وللإيمان وزنه وقيمته على كل حال، مع تفاضل أهله في الدرجات، وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان كالعبادات، والجهاد بالأنفس والأموال كما قال سبحانه: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦)} [النساء: ٩٥، ٩٦].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -اُرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري (١).
وشهادة أن (لا إله إلا الله) ليس لها مدلول إلا أن تكون العبودية في هذا الكون لله وحده، وأن يكون الحكم في حياة البشر لله وحده، كما أن له الحكم وحده في نظام الكون سواء.
فهو سبحانه المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره.
وهو سبحانه المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشرعه.
فلا يحق لأحد أن يعبد إلا الله وحده، ولا يتلقى الشرائع والأحكام إلا من الله وحده.
والإيمان بالله وإخلاص الدين له، وتحقيق عبودية البشر لله سبحانه إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله لله، وعبودية الوجود كله لربه.
إن الإنسان إذا نظر في هذا الكون العظيم الهائل.
لا بدَّ أن يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود الخالق البارئ المصور.
العزيز القادر الذي خلق هذا الكون.
ويدبر أمره.
ويصرف أحواله ومخلوقاته.
وله الخلق والأمر في ملكه.
فمتى يقبل هذا القلب على ربه ويؤمن به؟.
ومتى يتحرك إلى الاستجابة لداعيه؟.
ومتى يستسلم لربه، كما استسلم هذا الوجود كله بالطاعة لخالقه؟.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)} [آل عمران: ٨٣].
وبذلك يستشعر القلب حقيقة العبودية، ويذوق طعمها، ويتلذذ بها، في استسلام الواثق المطمئن، الذي يستشعر أن كل ما حوله من الكائنات والبشر يشاركه ويتجاوب معه في طاعة الرب وعبادته.
إن الذي يحرك العبد لعبادة ربه وتوحيده ليس فقط البرهان العقلي الذي يدل على استسلام الكائنات لربها في طواعية ويسر، بل هناك مذاق آخر.
مذاق المشاركة مع كافة المخلوقات في السماء والأرض في الطاعة.
ومذاق الطمأنينة للقلب هذا الرب العظيم الكريم.
ومذاق الانسياق مع موكب الإيمان الشامل بالمحبة والشوق.
إنه مذاق العبودية الراضية.
التي لا يسوقها القسر.
ولا يحركها القهر.
إنما تحركها قبل الأمر والتكليف عاطفة الود والطمأنينة، والانسجام مع الكون كله في طاعة الرب، فلا تفكر في التهرب من الأمر، لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام للرب الكريم، الذي بيده كل شيء، وتقف بين يديه، ولا تتجه لأحد سواه.
هذا الاستسلام الشامل لرب العالمين هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه وحلاوته.
وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام.
وهذا ما يجب أن يستقر في القلب قبل التكليف والأمر.
وقبل الشعائر والشرائع.
إنه معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله.
والانسجام مع الكائنات في التلذذ بعبادته وطاعته.
فكلها ساجدة لربها.
خاضعة لعظمته.
مستكينة لعزته.
مطيعة لأمره.
لأنه الرب المعبود.
والملك المحمود.
فمن عدل عن عبادته إلى عبادة ما سواه، فقد أهان نفسه، وضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)} [الحج: ١٨].
إن خالق هذا الكون العظيم المشهود في ضخامته وفخامته، والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره، ويصرفه بقدره، يقلب الليل والنهار، والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو ربكم الذي أنزل لكم منهجه، وشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه، وأنزل إليكم أحسن كتبه، وأرسل إليكم أفضل رسله، وله الخلق والأمر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
والله تبارك وتعالى كما أنه لا خالق معه فكذلك لا آمر معه.
إن المخلوقات والكائنات كلها في العالم العلوي والعالم السفلي: من سماء وأرض.
وملائكة وأرواح.
وشمس وقمر.
وليل ونهار.
وجماد ونبات.
وطير وحيوان.
وماء وتراب.
وجبال وبحار.
ورياح وذرات.
كل هذه المخلوقات تعاطف البشر وتشاركهم حركة الحياة.
إنها تتلقى أمر الله، وتنفذه وتخضع له وتسير وفقه.
إنها مسخرة تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله.
ومن هنا يهتز القلب البشري وينساق للاستجابة والطاعة في موكب الأحياء المستجيبة المطيعة، فلها أوامر، وله أوامر.
فإذا رأى الناس هذه المخلوقات العظيمة، والمشاهد الحية في الكون، وتجلى لهم خضوع هذه الخلائق الهائلة، وعبوديتها لخالقها، وطاعتها لأمره، توجهوا إلى ربهم الذي لا رب غيره، ودعوه في إنابة وخضوع: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)} [النور: ٤١، ٤٢].
فمن رزقه الله هذا النظر وهذا الفكر وهذا التأمل زاد إيمانه، وصلح يقينه، وحسنت أعماله، وأقبل على الطاعات، ونفر من المعاصي، وخلصت حياته لربه، واشتغل بعبادة مولاه، وحقق مراد الله منه بالطاعة والعبادة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
(١) أخرجه البخاري برقم (٢٧٩٠).
مختارات

