فقه الإيمان بالله (١٠)
فالإيمان محله القلب، وإذا دخل فيه جاء بكل خير، وإذا لم يدخل الإيمان في القلب فلا فائدة من العمل معه، فالمنافقون كان إيمانهم بألسنتهم فلم ينفعهم، وكانوا يصلون مع المسلمين فلم ينفعهم ذلك، بل هم في الدرك الأسفل من النار: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: ١١].
ولفظ الإيمان شيء.
وصورة الإيمان شيء.
وعلم الإيمان شيء.
لكن حقيقة الإيمان شيء أعظم من هذا كله.
وكل شيء يصنع في مكان، ومكان تجريبه في مكان آخر كالسيارة والقلم ونحوهما، وكذلك علم الإيمان له مكان، ومكان معرفته وتجريبه له ميدان آخر.
وذلك لا يتم ولا يحصل إلا بالمجاهدة والتضحية بكل شيء من أجل الحصول عليه، فهو أغلى شيء في الدنيا والآخرة.
وطريق الإيمان تعب فيه آدم.
وناح لأجله نوح.
ورمي في النار الخليل.
واضطجع للذبح إسماعيل.
وبيع وسجن يوسف.
ونشر بالمنشار زكريا.
وذبح بالسكين يحيى.
وقاسى الضر أيوب.
وزاد في البكاء داود.
وسار مع الوحش عيسى.
وعالج الفقر والأذى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهؤلاء هم شموس التوحيد والإيمان.
ونجوم الهدى.
وجبال الصبر واليقين.
فالإيمان أصل الدين وقاعدته التي يبنى عليها البناء، وهو بمنزلة تسوية الأرض وسقيها، أما الأمور الباقية في الدين فهي بمنزلة الأشجار والحبوب التي يمكن زرعها وغرسها في هذه الأرض.
فهي تنمو بقدر خصوبة الأرض واستعدادها كما أنها تثمر بقدر الجهود المبذولة في تمهيد الأرض وسقيها.
فالإيمان هو أرض الدين.
والدعوة نبتها وطلعها.
والعبادة ثمرتها وزينتها.
والعلم يرويها ويسقيها.
والجنة ورضى الرب غايتها.
ولا يمكن أن نحصل على حقيقة الإيمان، إلا إذا تيقنا أن جميع المخلوقات في السموات والأرض، قويها وضعيفها كالحية الميتة، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، ولا تعطي ولا تمنع إلا بأمر الله، وأن كل شيء بيد الله، وأن ما سوى الله ليس بيده شيء كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
وقوة الإيمان تظهر إذا كانت في القلب، كالرصاص لا تظهر قوته إلا إذا كانت في البندقية، وهذا هو الإيمان الحقيقي.
فإذا توقف على كلام اللسان، وسماع الآذان، وفكر الدماغ، فذاك إيمان اللسان والأذن والدماغ، ولا تظهر قوته وآثاره إلا إذا كان في القلب كالرصاص ما دام في الجيب أو البيت لا تظهر قوته ولا آثاره، حتى يكون في محله الأصلي في البندقية.
وإذا احصل العبد على حقيقة الإيمان هانت عليه نفسه وأمواله، وبلاده وأهله في سبيل مرضاة مولاه.
والدنيا محل الكسب، والقلوب محل الإيمان، فيجب أن نجتهد على قلوبنا حتى لا يبقى فيها تأثر من غير الله من الأشخاص والأموال والأشياء.
ولما كثر الجهد على الأموال والأشياء، تأثرت القلوب بهذه الأشياء.
فقال الناس:
حاجات الدنيا تقضى بالأموال والأسباب.
وحاجات الآخرة تقضى بالإيمان والأعمال الصالحة.
وهذا خطأ، فحاجات الدنيا والآخرة لا يقضيها إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير.
أحياناً يقضيها بالأسباب كما يحصل النبات من نزول الماء على الأرض، وكما يحصل الولد بالوطء، والشبع بالأكل، والري بالشرب وهكذا.
وأحياناً يقضيها بدون الأسباب: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)} [يس: ٨٢].
وأحياناً يقضيها بضد الأسباب كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وكما نصر موسى - صلى الله عليه وسلم - على فرعون مع أن معه الملك والدولة، وكما ربى موسى - صلى الله عليه وسلم - في قصر عدوه فرعون: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)} [البقرة: ١٠٦].
والإيمان قسمان:
نظري.
وعملي.
فالنظري يحصل للإنسان بطريق الكلام الصادر عن ثقة كما قال الله لموسى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤)} [طه: ١٤].
ثم أراد الله أن يبين لموسى حقيقة الإيمان عملياً، وأنه سبحانه هو الفعال القادر على كل شيء، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يعجزه شيء، وأن جميع المخلوقات ليس بيدها شيء، وأن الخلق والأمر لله وحده لا شريك له فقال سبحانه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١)} [طه: ١٧ - ٢١].
فجاء أمر الله إلى العصا فانقلبت فوراً إلى حية تسعى، ثم أمره الله بأخذها فعادت بأمر الله فوراً عصا، وأمره سبحانه بإلقائها وهي نافعة فأطاع، وأمره بأخذها وهي ضارة فأطاع، ليعلم موسى أن جميع المخلوقات بيد الله وحده، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذن الله.
ثم أمره الله بإدخال يده في جيبه فأدخلها فخرجت بيضاء ساطعة من غير عيب ولا برص كما قال سبحانه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢)} [طه: ٢٢].
فرأى موسى - صلى الله عليه وسلم - قدرة الله عملياً في قلب العصا حية وإعادتها مرة أخرى، وفي خروج يده بيضاء من غير سوء، وزاد إيمانه بربه، وقوي يقينه، واطمأن قلبه، وعلم نظرياً وعملياً أن الله على كل شيء قدير.
فلما حصل له كمال اليقين، أرسله الله إلى فرعون فأبى واستكبر، فأنجى الله نبيه، وأهلك فرعون وجنوده، بأمر واحد، ووقت واحد.
والدنيا محل تكميل الإيمان والأعمال والأخلاق.
فمن اجتهد لتكميل تلك الصفات في نفسه صار في مرتبة الأبرار والصالحين.
ومن اجتهد لتكميلها في نفسه وفي غيره من الناس صار في مرتبة المقربين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)} [الواقعة: ١٠، ١١].
وعلامة الإيمان الكامل:
أن نتوجه إلى الله وحده في جميع أمورنا.
فهو قاضي حاجات البشر وحده لا شريك له.
ونفعل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال.
فأوامر الله كالحبل الذي يتمسك به الغريق.
فمن تمسك بحبل الله نجا وأفلح.
ومن توجه إلى المخلوق خذله الله به وأذله.
وكل الناس غرقى إلا من تمسك بحبل الله واعتصم به.
فبالجهد للدين يقوى الإيمان.
وبقوة الإيمان تقوى الأعمال.
وبقوة الإيمان والأعمال يقوى الدعاء.
وبالدعاء تقضى الحوائج.
كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].
وكلما قوي الإيمان جاءت متطلبات الإيمان سهلة كالطاعات، وإذا ضعف الإيمان ثقلت الطاعات، وجاءت الرغبة في المعاصي.
وإذا اقترنت الأعمال بالإيمان جاءت الطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة.
وإذا اقترنت المعاصي بالإيمان جاءت المصائب نقداً في الدنيا قبل الآخرة كما حصل للصحابة في غزوة أحد، وفي غزوة حنين.
فأولاً تسلب الطمأنينة من القلوب، وتأتي الهموم ليستغفروا ويتوبوا، فإذا لم يرجعوا إلى الحق، واستمروا في المعاصي، تحولت المصائب والهموم إلى الأسباب كالأموال والأولاد، ليتوبوا إلى الله.
فالأولى فضائل.
والثانية ابتلاء بالفضائح لعلهم يتوبون.
وفرعون لما فسد فكره، جاء عنده الهم أن هذا الملك سوف يسلب مني، ولأنه لا يعرف الحق، بدأ يعالج البلاء بالبلاء فقرر أن يقتل كل مولود من بني إسرائيل، فعالج المعصية بالمعصية، وإلا علاج الهم الاستغفار والتوبة.
فعالج فرعون الخطأ بالخطأ، فما زال الهم بل زاد، وجاء بشكل آخر أقوى وأشد من الأول، فقد قتل فرعون أولاد بني إسرائيل بالآلاف، لأنه فكر في ملكه فما حصل العلاج.
فربى الله من يزيل ملكه في بيته، وتحت رعاية زوجته، وهو موسى - صلى الله عليه وسلم -.
ولما كبر قام بدعوة فرعون إلى الله، وتلطف معه حتى قامت الحجة عليه، ولما لم يرجع ولم يؤمن ألقى الله المصائب في ملكه كما قال سبحانه: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)} [الأعراف: ١٣٢، ١٣٣].
فانتقل الهم من قلبه على نفسه إلى الهم في ملكه، وابتلاه الله بهذه المصائب لعله يتوب إلى الله، فالحياة في عهده فاسدة، والأحوال فاسدة، بسبب فقدان الدين، ولكنه مع رؤية هذه الآيات أبى كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦)} [طه: ٥٦].
فتأثر الملك بسبب ذلك الاستكبار كما قال سبحانه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)} [القصص: ٣٩].
فهاتان مرحلتان: إلى القلوب.
ثم إلى الأسباب، فإذا لم يرجع فهناك مرحلة ثالثة، وهي البطش والإهلاك كما قال سبحانه: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)} [الزخرف: ٥٥].
فهذه ثلاث مراحل للخسران:
فأولاً تتأثر القلوب.
ثم تتأثر الأسباب.
ثم التدمير والهلاك، وذلك ليعود الإنسان إلى ربه.
فيربي الله العاصي بالفضائل والمصائب.
فإذا لم يقبل ابتلاه بالفضائح.
فإذا لم يتب أهلكه الله.
وبعد الموت تكون الحال أشد وأبقى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤)} [الرعد: ٣٤].
مختارات

