فقه الإيمان بالله (٩)
والإيمان بالنسبة لمعرفته له ثلاث مراتب:
الأولى: الإيمان المجمل كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤].
الثانية: الإيمان الواجب من فعل الواجبات، وترك المحرمات.
الثالثة: الإيمان المطلق، وبه تتحقق العبودية الحقة، وإحياء جهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العبادة والدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)} [الحجرات: ١٥].
وهذه المرتبة أعلى المراتب وأفضلها وأعظمها.
والإيمان بالنسبة لتحصيله كالمال له بداية وليس له نهاية، وكلما زاد الجهد والطلب زاد الإيمان، وزادت الأعمال، وحسنت الأخلاق.
فالإيمان قسمان:
إيمان موجود.
وإيمان مطلوب.
فإذا كان الإيمان الموجود لا يكفي للقيام بالأعمال، فلا بد من تقوية الإيمان بالإيمان المطلوب حتى نتمكن من القيام بالعمل، ونتحصل على موعودات الله بالإيمان الكامل، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)} [النساء: ١٣٦].
فالإيمان الموجود ينجي من النار ويدخل الجنة، ولكن هذا الإيمان لا يفي بمواعيد الله للمؤمنين في الدنيا، كما قال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)} [آل عمران: ١٣٩].
فالعلو والرفعة مشروطة بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل.
وكذلك قوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)} [الروم: ٤٧].
فالنصر مشروط بالإيمان، والمقصود: الإيمان الكامل.
وهكذا بقية الموعودات في القرآن مشروطة بالإيمان الكامل.
فإذا جاء الإيمان المطلوب فلا بد أن يظهر الموعود من النصر، وحصول البركات، والخلافة في الأرض.
وعدم ظهور الموعود دليل على أن الإيمان الموجود لا يكفي لظهور الموعود، فلا بدَّ من الجهد والتضحية حتى يأتي الإيمان المطلوب ليحصل الموعود.
والإيمان يزيد باستعمال الأعضاء الأربعة للدين:
السمع.
والبصر.
واللسان.
والدماغ.
وهذه الأعضاء الأربعة تصب في القلب، كما يصب المطر على الأرض.
فإذا سمع المسلم كلام الإيمان بأذنه، فهذه الأذن تصب في القلب ما سمعت، وتملؤه إيماناً.
وإذا منَّ الله على العبد وأعطاه نظرات الإيمان، فكلما رأى مخلوقاً تذكر به الخالق، وكلما رأى صورة تذكر بها المصور سبحانه.
وكلما رأى آيات الله في القرآن تذكر به من تكلم به وهو الله، فهذه العين تصب في القلب ما رأت وتملؤه إيماناً.
فالعين المؤمنة هي التي ترى الأشياء وتنفيها، وتتعداها إلى خالقها فهو الذي بيده الأمر كله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)} [يونس: ١٠١].
فإذا لم تر العين هذه الرؤية رأت الأشياء ثم تأثرت بها، ثم أثرت على القلبل، فضعف الإيمان، وتبدل اليقين، ثم ضعفت الأعمال، ثم نزلت العقوبة حسب الترك أو التقصير أو التأخير.
وإذا تكلم المسلم كلام الإيمان مبيناً عظمة ربه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وعظمه دينه وشرعه، وعظمه خلقه وأمره، فهذا اللسان يصب في القلب ويملؤه إيماناً وعلماً.
وإذا تفكر الإنسان في عظمة الله وكبريائه، وفي جلاله وجبروته، وفي قوته وقدرته، وفي حلمه وعفوه.
وتفكر في نعم الله وآلائه، وتفكر في عظمة مخلوقاته، وتفكر في سعة ملكه وكثرة مخلوقاته، فهذا الدماغ يصب في القلب ويملؤه إيماناً.
فالقلب محل الإيمان بالله، والتعظيم له، والخوف منه، والرجاء له، والمحبة له، والخشية منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وتقواه.
فإذا قامت هذه الأعضاء الأربعة بوظيفتها التي أرادها الله وصلت كلمة (لا إله إلا الله) إلى القلب، فرسخ الإيمان في القلب، ثم ظهرت آثاره على الجوارح، فكملت للإنسان الزينة الداخلية والخارجية.
وهذه الزينة التي يحبها الله، ودعا إليها رسول الله، وهي محل نظر الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم (١).
وإذا جاء الإيمان أحب المؤمن الإيمان والطاعات والحسنات كما يحب الطيبات والطاهرات، وأبغض وكره الكفر والفسوق والعصيان، كما يكره القاذورات والنجاسات.
وإذا حل الإيمان في القلب مال إلى الطاعات، واجتنب المحرمات، ونفر من السيئات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌحَكِيمٌ (٨)} [الحجرات: ٧، ٨]
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٥٦٤).
مختارات

