فقه الإيمان بالله (١١)
وقد أقسم الله عزَّ وجلَّ بالعصر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة، على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية والعملية فقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)} [العصر: ١ - ٣].
وهذا نهاية الكمال الإنساني، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره.
وكمال الإنسان بإصلاح قوتيه: العلمية والعملية.
فصلاح قوة الإنسان العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل.
فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما.
والإيمان لا يكون حتى ينبثق منه عمل صالح.
وهذا الإيمان إما أن يجد طعمه وحلاوته وحقيقته في القلب، أو لا يجد كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)} [الحجرات: ١٤].
فهؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين، لأنهم ليسوا من باشر الإيمان قلبه، ذاق حلاوته وطعمه، وهذا حال أكثر المسلمين، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان، لأنهم لم يذوقوا طعمه، ونفى عنهم الإيمان المطلق، لا مطلق الإيمان وهو الإٍسلام.
ووعدهم مع ذلك على طاعاتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئاً.
ثم ذكر سبحانه أهل الإيمان الحقيقي، الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا في إيمانهم، لأن الإيمان قد باشر قلوبهم، وخالطتها بشاشته، فلم يبق للريب فيه موضع.
وصدقوا ذلك ببذل أحب شيء إليهم في رضى ربهم وهو أموالهم وأنفسهم، ولا يمكن حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان وحلاوته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)} [الحجرات: ١٥].
فالإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح.
أما الذين يقولون أنهم مسلمون ويشركون مع الله غيره.
أو يفسدون في الأرض.
ويحاربون الله ورسوله.
أو يؤذون المؤمنين والمؤمنات.
وأئمة الدين والمصلحين.
أو يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه من واق كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)} [البقرة: ٨٥].
فلا بد من الجمع بين الإيمان القلبي، والإحسان العملي كما قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)} [البقرة: ١١٢].
وأعظم شيء وهبه الله للعبد هو الإيمان الذي يسعد به في الدنيا والآخرة وهو فضل الله وإحسانه إلى البشرية كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧)} [الحجرات: ١٧].
والإيمان بالله أغلى شيء في الحياة، بل هو أغلى شيء في خزائن الله، وسعادة الإنسان في الآخرة مبنية عليه، وهو أهم شيء يوصى به العبد أهله عند مفارقته
للحياة كما قال سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)} [البقرة: ١٣٢].
والإيمان نور يشرق به قلب المؤمن وروحه وكيانه، فيرى قلب المؤمن الخالق والمخلوق، ويرى عظمة ربه وإحسانه، ويشاهد مظاهر قدرته ورحمته.
ويرى المخلوق بيد خالقه، ليس بيده شيء، وليس بيده نفع ولا ضر، إن لم يهده ربه إلى نور الإيمان، تاه في أودية الظلمات، وخسر الدنيا والآخرة.
فالإيمان نور واحد يهدي إلى طريق واحد، يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
وأما الكفر فظلمات شتى متنوعة:
ظلمة الكبر والطغيان.
وظلمة الرياء والنفاق.
وظلمة الهوى والشهوة.
وظلمة الجهل والقسوة.
وظلمة الحرص والطمع.
وظلمة البخل والشح.
وظلمة الشك والقلق.
وظلمة الكذب والافتراء.
وظلمات شتى يجمعها كلها الشرود عن صراط الله المستقيم، والتلقي من غير الله، والاحتكام إلى غير منهج الله.
والله يؤتي فضله من يشاء، وهو العليم بمن يصلح له، ومن لا يصلح له، وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد، حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع والأصناف، وكلها ظلمات.
والعاقبة اللائقة بأصحاب الظلمات إذا لم يهتدوا بالنور في الدنيا، أن يخلدوا في ظلمات النار في الآخرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)} [البقرة: ٢٥٧].
إن من ذاق طعم الإيمان وحلاوته، وعرف حقيقته لا يمكن أن يتركه أو يجد اللذة في غيره.
فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، لم يطلب برهاناً، أو
تقوية للإيمان، إنما هو أمر آخر له مذاق آخر، إنه أمر الشوق الروحي إلى ملابسة ورؤية السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)} [البقرة: ٢٦٠].
ورؤية الآيات الكونية لها مذاق.
وتدبر الآيات القرآنية لها مذاق.
والإيمان بالغيب له مذاق.
ومذاق رؤية هذه العملية أمام العين له مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب.
فأراد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أن يرى يد القدرة وهي تعمل، ليحصل على مذاق وحلاوة هذه الملابسة.
ليستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.
وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كان ينشد اطمئنان الإنس إلى رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجوب وهو يتجلى وينكشف.
وقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأراه التجربة الذاتية المباشرة، والقدرة الإلهية.
فرأى إبرهيم - صلى الله عليه وسلم - السر الإلهي يقع بين يديه، وهو السر الذي يقع كل لحظة، ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه، إنه سر هبة الحياة.
رأى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - هذا السر يقع بين يديه، طيور معروفة أمسكها، ثم ذبحها وقطعها، وخلط أجزاءها ببعض، ثم فرقها في أماكن متباعدة ثم دعاها، فتجمع اللحم مع اللحم، والدم مع الدم والريش مع الريش، والعظام مع العظام، ثم جاءت إليه مسرعة حية كما كانت من قبل.
فاجتمع له دليل العيان بالبصر، مع دليل الإيمان بالخبر، فحصل على مرتبة عين اليقين، فتوارد الأدلة اليقينية يزيد الإيمان، ويكمل به الإيقان، ويسعى في نيله أولو العرفان، ولذلك استجاب الله له حين قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: ٢٦٠].
والإيمان أعظم شيء.
وأغلى شيء.
وبه يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
مختارات

