فقه الإيمان بالله (٨)
المؤمنون متفاضلون في الإيمان بالله بحسب المعرفة به والمحبة له تنوعاً لا ينحصر.
بل الخلق متفاضلون متفاوتون في إيمانهم بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وغير ذلك من أمور الغيب.
كما أنهم متفاوتون فيما يشاهدون ويسمعون ويعملون.
وكذلك هم يتفاضلون في العلم والإرادة، فإذا كان أحدهم أكثر محبة لله وذكراً وعبادة كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة لله، وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له، فصاحب المحبة والتأله يحصل له من حضور الرب في قلبه، وأنسه به ولذة مناجاته، ما لا يحصل لمن ليس مثله.
وكذلك منازل المؤمنين في الجنة متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم وأعمالهم.
والدعوة إلى الله وإن كانت واجبة على كل مسلم إلا أنها لا تكفي في حصول الإيمان، حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن.
فهدى كل إنسان بيد خالقه الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهدى والإيمان ومن لا يصلح كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)} [يونس: ١٠٠].
ولا بدَّ لكل عبد من الإيمان والتوحيد كما قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: ٣٦].
ولا ينفع الإيمان مع الشرك كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)} [يوسف: ١٠٦].
فأثبت لهم إيماناً مع الشرك، فهم وإن أقروا أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور إلا أنهم يشركون معه غيره في العبادة.
وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار، كما أثر إيمان أهل التوحيد، بل كانوا معه خالدين في النار بشركهم وكفرهم، فإن النار إنما سعرها عليهم الشرك والظلم.
فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها بعد أخذ الحق منهم.
ومقامات الإيمان التي عليها بناؤه ثلاثة وهي:
محبة الله.
والخوف منه.
والرجاء له.
وهذه الأمور الثلاثة هي الأصل والمادة في كل خير، فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات، وأحاطت به الشرور، وقد ذكر الله هذه الثلاثة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧)} [الإسراء: ٥٧].
وجمال الإنسان وكماله بالإيمان والأعمال والصفات.
وجمال الشجرة وكمالها بالأوراق والأزهار والثمار.
وأول ما تأثر من شجرة الإيمان جذورها، وجذور شجرة الإيمان هي أركان الإيمان الستة:
الإيمان بالله.
وملائكته.
وكتبه.
ورسله.
واليوم الآخر.
والقدر خيره وشره.
وبقدر قوة هذه الجذور تستطيع حمل الساق والأغصان، وهي أركان الإسلام الخمسة:
الشهادتان.
وإقام الصلاة.
وإيتاء الكاة.
وصوم رمضان.
والحج.
وكان الصحابة في أول الإسلام في مكة لم يكلفوا بالصلاة والزكاة، ولا الصيام والحج.
فلما قويت الجذور واستعدت لحمل الأغصان جاءت الفروع وهي الأوامر والنواهي، ثم جاءت الأوراق والأزهار وهي الأخلاق الحسنة.
فأصبحت الأغصان والفروع مزينة ومعمورة بأوامر الله من الآداب والأخلاق والمعاشرات، وسائر الأحكام الشرعية.
وصارت البيوت والأسواق، والرجال والنساء، والمعاملات والمعاشرات، مزينة بأوامر الله في جميع الأحوال والأوقات والأماكن.
فكل من رأى هذه الشجرة شجرة الإيمان أحبها واقترب منها، لما تحمله من جمال الأخلاق كالعفو والإحسان.
والصدق والكرم.
والرحمة والشفقة.
والبذل والإيثار.
: ونحو ذلك من الأخلاق المفضية إلى هداية الناس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)} [إبراهيم: ٢٤، ٢٥].
والإنسان لا بدَّ له من بيئة الإيمان التي تحفظ الموجود، وترقي الإنسان لطلب المفقود، وكل مخلوق يتأثر بالبيئة التي يكون فيها.
فالإنسان إذا دخل في جو حار أو بارد تأثر بهما، فكذلك إذا دخل بيئة الإيمان والأعمال الصالحة تأثر بذلك، فزاد إيمانه، وقويت أعماله، وحسنت أخلاقه.
والإنسان لا يتأثر بالبيئة إلا إذا دخلها، فالذي يجلس في مكان الدباغة يألف الرائحة ويعتادها، فإذا نقل إلى بيئة الزهور والعطور ومكث فيها مدة تأثر بها، فإذا رجع إلى بيئته الماضية استنكرها واستقبحها.
فإذا قيل له كنت فيها أولاً، قال أعوذ بالله ومن يطيقها، ثم نفر منها وولاها ظهره، مع أنه كان يعيش فيها عدة سنين.
وهكذا بيئة المعاصي والنساء كلها شر وروائحها كريهة، ولا يشعر الإنسان بذلك إلا إذا نقل إلى بيئة طيبة، فيها الإيمان والطاعات، والعبادة والدعوة، والذكر وتلاوة القرآن، وتعظيم الله وحمده.
فهنا يجد القلب حاجته وغذاؤه فيلزم هذه البيئة وينفر من ضدها.
وهذه البيئة هي التي تحفظ الإيمان الموجود، وترقى الإنسان لطلب الإيمان المفقود، والأعمال المفقودة.
والإيمان هو كمال وجمال العبد، وبه ترتفع درجته في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)} [المجادلة: ١١].
وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، والإيمان أعظم مطالب الإنسان على الإطلاق، وقد جعل الله له مواد كثيرة تجلبه وتقويه، وتزيده وتحفظه ومنها:
تدبر القرآن الكريم، وما فيه من عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته، واليوم الآخر، وما به من وصف الحشر والحساب، والجنة والنار.
والنظر والتفكر في الكون وما فيه من المخلوقات الدالة على عظمة الله، ورؤية الآلاء والنعم التي سخرها الله لعباده، ومشاهدة مظاهر رحمة الله بنزول المياه، ونبات النبات، ووفرة الهواء، واستقرار الأرض، والإكثار من ذكر الله في كل وقت، والإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة.
والدعوة إلى الله، وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالداعي يسعى إلى تكميل العباد ونصحهم ليرضى الله عنهم، فيجازيه الله بتأييده ونصره، وتقوية إيمانه وهدايته كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)} [العنكبوت: ٦٩].
وكذلك معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة ما هو عليه من الإيمان والأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فهو أكبر داع إلى الإيمان في أقواله وأفعاله، وصفاته وأخلاقه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
مختارات

