فقه الإيمان بالله (٧)
والإيمان له شعب.
وله درجات:
فأما شعب الإيمان فكثيرة متنوعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (١).
وأما درجات الإيمان فهي خمس:
الأولى: لفظ الإيمان كقولنا: (لا إله إلا الله).
الثانية: صورة الإيمان، وهي الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام ونحوهما كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤].
الثالثة: طعم الإيمان، وهو ما يتلذذ به القلب كما يتلذذ البدن بالطعام كما قالالنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا» أخرجه مسلم (٢).
الرابعة: حلاوة الإيمان، وهو التلذذ بحلاوة الإيمان، وهي درجة بعد الطعم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُّحِبَّ الْمَرْءَ لا يُّحِبُّهُ إلا لِلَّهِ، وَأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» متفق عليه (٣).
الخامسة: حقيقة الإيمان، وهي أعلى درجات الإيمان واليقين، وهي ما وقر في القلب، وصدقه العمل من التعلق بالله والإعراض عما سواه، والتلذذ بطاعة الله في جميع الأحوال.
وتحصل لمن عرف حقيقة الدين، وقام بجهد الدين:
إيماناً وعبادة.
وتعليماً ودعوة.
وهجرة ونصرة.
وجهاداً وإنفاقاً.
وبذلاً وتركاً.
مخلصاً لله.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)} [الأنفال: ٢ - ٤].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)} [الأنفال: ٧٤].
وثمرة الإيمان:
كثرة الطاعات والأعمال الصالحة.
ومحبتها.
والتلذذ بها.
ودخول الجنة.
والفوز برضى الله عزَّ وجلَّ.
فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة، ما أن تستقر في القلب حتى تسعى بذاتها إلى
تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح، وخلق حسن.
ولا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرس فيها:
فإن غرست فيها شجرة الإيمان والتقوى أورقت حلاوة الأبد.
وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر فاسد مر، يورث شقاوة الأبد كما قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)} [الشمس: ٧ - ١٠].
واليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته، والمحبة لله ورسوله ودينه هما ركنا الإيمان، الذي لا يتم إلا بهما، ولا يقبل إلا بهما.
والمسلمون يتفاضلون في الإيمان.
ويتفاضلون في شعبه.
ويتفاضلون في درجاته.
وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه.
ويقوم بما يقدر على تقديمه من الفاضل.
ولا بد من الإيمان الواجب.
والعبادة الواجبة.
والزهد الواجب.
والعمل الواجب.
والدعوة الواجبة.
ثم الناس يتفاضلون في ذلك حسب إيمانهم.
فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد.
ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه من العلم.
ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما.
ومنهم من تتكون الدعوة أيسر عليه منهما.
والمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير.
وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر.
فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل.
ويحصل له به منفعة أكثر.
فهذا الأفضل له أن يطلب ما هو أنفع له.
وهو قي حقه أفضل.
ولا يطلب ما هو الأفضل مطلقاً إذا كان متعذراً في حقه، أو متعسراً يفوته ما هو أفضل له وأنفع، كمن ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة.
فأي عمل صالح كان له أنفع ولله أطوع، أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له.
وفي كل خير: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)} [الأحزاب: ٧١].
والله سبحانه أنزل الدين الكامل، وطلب منا القيام بالدين الكامل، ووعدنا على ذلك النعيم الكامل، والخلود الدائم.
وهذا الملك ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعبيد عبيده.
والله سبحانه يغار، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)} [الأنعام: ١٥٣].
ومن غيرته سبحانه أنه إذا رآك تساكن غيره، وتتوجه إليه سقطت من عينه كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)} [الإسراء: ٢٢].
ومعية الله وحفظه للمؤمنين تكون مع الصفات التي يحبها الله كالإيمان والتقوى، والصبر والإحسان.
والله ينجينا بتلك الصفات ولو لم يكن معنا شيء من المال أو الملك أو القوة إذا بذلنا ما نستطيع.
كما نجى الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من النار، وليس معه شيء إلا إيمانه بربه.
وكما نجى الله موسى - صلى الله عليه وسلم - من فرعون.
وأنجاه من الغرق في البحر.
ونصره بإيمانه على السحرة.
وكما نجى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - من كفار مكة حين أرادوا قتله.
وحفظه في طريق الهجرة.
ونصره على أعدائه.
ومكن له في الأرض.
مع أنه لم يكن معه ملك ولا مال.
وكما ينجي الله الرسل وينصرهم كذلك ينجي المؤمنين: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)} [يونس: ١٠٣].
وقارون لما أعرض عن الإيمان خسف الله به الأرض مع ماله.
وفرعون لما طغى أهلكه الله مع أن معه الملك.
ونمرود قتله الله لما كفر وأعرض عن الله مع أن معه الملك.
وهكذا القرى الظالمة أهلكهم القوي العزيز بذنوبهم مع كثرتهم وشدتهم وقوتهم، وعظمة ملكهم، وكثرة أموالهم: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)} [الكهف: ٥٩].
فالله مع المؤمنين ولايةً وحفظاً.
ونصراً وتأييداً.
وتثبيتاً وتمكيناً: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)} [النور: ٥٥].
(١) أخرجه مسلم برقم (٣٥).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٣٤).
(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٦) واللفظ له، ومسلم برقم (٤٣).
مختارات

