قراءة القرآن أفضل من الذكر
قال ابن القيم: "هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل؛ وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة،... وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة.
وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه؛ فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه.
وكذلك أيضاً قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه: فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع وللحم موضع.
وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي.
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت.
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له.
فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جداً يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، والله تعالى الموفق.
مختارات