فقه الفكر والاعتبار (٣)
ومن آيات الله الدالة على عظمته، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك حسه ولا يرى شخصه، وجملته مثل البحر الواحد، والطيور محلقة فيه في جو السماء، سابحة بأجنحتها في الهواء، كما يسبح حيوان البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه، كما تضطرب أمواج البحر.
ومن آياته سبحانه ملكوت السموات، وما فيها من النجوم والكواكب.
ومن عرف عجائب الأشياء، وفاتته عجائب السموات فقد فاته الكل، فالأرض وما فيها من النبات والحيوان، والبحار والجبال، وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر أو أصغر كما قال سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)} [النازعات: ٢٧، ٢٨].
وكما يعظم الناس عالماً، بسبب معرفتهم بعلمه ومؤلفاته، فيزدادون بمعرفته توقيراً له، وتعظيماً واحتراماً.
فكذلك كلما استكثر الإنسان من معرفة أسماء الله وصفاته، وعجيب صنع الله، كانت معرفته بجلاله وعظمته أتم، وتوقيره أعظم، وعبادته أكمل.
وهكذا التأمل والنظر في المخلوقات؛ فكل ما في الوجود من خلق الله وصنعه، والنظر والفكر فيه لا يتناهي، وإنما لكل عبد منه بقدر ما رزق: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)} [يونس: ١٠١].
ومن عود نفسه الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته، والنظر في خلقه وملكه،صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأن ذلك غذاء قلبه وروحه، لا مانع عنه، ولا مزاحم فيه.
والعاقل من يطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولايوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى، وعجائب مخلوقاته، والإيمان به، ولذة مناجاته.
وإنما يحصل الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق طعم الإيمان لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك فهو من المحرومين.
فأصل كل حرمان سببه الجهل بالله وأسمائه وصفاته، ودينه وشرعه.
وأصل كل طاعة ونجاة إنما هو الفكر في أسماء الله وصفاته.
وأفعاله وخزائنه.
وفيما خلق له الإنسان.
وفيما أمر به.
وفيما أعد له من النعيم المقيم.
أو العذاب الأليم.
فتولد تلك المعرفة بالله إقبالاً ونشاطاً بحسب قوتها أو ضعفها، فيزداد القلب فرحاً وأنساً بربه، وتتلذذ الجوارح بالطاعة والعبادة.
وكذلك أصل كل معصية إنما يحصل من جانب الفكر.
فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة.
فيبذر فيها حب الأفكار الرديئة.
فيتولد منه الإرادات الفاسدة.
فيتولد منها العمل الذي يغضب ربه.
ويحبط عمله.
ويكون سبباً لهلاكه.
وإذا تدبرنا القرآن وجدنا أن الله يريد منا في الدنيا أن نكمل الإيمان، والأعمال الصالحة، والأخلاق، ونحذر المعاصي، لندخل الجنة.
والشيطان يريد منا أن نكمل شهواتنا الآن، ونعطل الأوامر، ونعيش على هوانا، ولو دخلنا النار يوم القيامة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧)} [النساء: ٢٧].
والله سبحانه يريد منا أن نكمل محبوباته في الدنيا من الإيمان والإحسان، والصدق والصبر، والتوبة والجهاد، وغيرها من الأعمال الصالحة، وهو سبحانه يكمل محبوباتنا في الآخرة برؤيته، وسكنى دار كرامته، ورضوانه، والتلذذ بألوان النعيم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)} [القمر: ٥٥]
والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فالدنيا دار العمل، والمسلم فيها مقيد بأوامر الله، كما أن السجين مقيد بأوامر السجن، فلا يستطيع أن يأكل ما شاء، أو يتكلم مع من شاء، أو يزور من شاء، بل هو مقيد بأوامر السجن.
لكن يعطي من هذه الأشياء بقدر الحاجة.
فكذلك المسلم في هذه الدنيا مقيد بأوامرالله التي تصلحه وتنفعه، فهو يقوم بالعمل، والله يطعمه ويسقيه ويرزقه حسب الحاجة، وبقدر ما يصلحه، إلى أن يخرج من السجن، إلى قصور الجنة، حيث النعيم المطلق، والخلود الدائم هناك: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)} [السجدة: ١٧].
والله تبارك وتعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن، فالكون كله ملكه، والإنسان ملكه، خلقه الله، وشرفه على ما سواه.
فمن أطاع الله سخر له كل شيء، ومن خضع لأوامر الله أخضع الله الكائنات كلها له من البحار والمياه والرياح وغيرها.
ولكن الإنسان إذا لم يطع الله ولم يكن له، فلا يكون الله له، ولا يكون معه، فإن الله مع المؤمنين والمتقين والمحسنين، ومن كان الله معه فكل شيء معه، ومن لم يكن الله معه فليس معه شيء: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)} [فصلت: ٣٠ - ٣٢].
ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدة منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما، ولكن الناس لضعفهم، وتزيين الشيطان لهم، يؤثرون ما يفنى على ما يبقى لقلة المذكر كما قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)} [الأعلى: ١٦، ١٧].
مختارات

