ذِكْر قصة نوح عليه السلام (٣)
وقوله: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [هود: ٢٩] كأنهم طلبوا منه أن يُبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك، وقال: ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى اللَّه ﷿، ولهذا قال: ﴿وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: ٣٠] ولهذا لما سأل كفَّارُ قريش رسولَ اللَّه ﷺ: أن يطردَ عنه ضعفاءَ المؤمنين، كعمَّار، وصُهيب، وبلال، وخَبَّاب، وأشباههم، نهاه اللَّه عن ذلك كما بيَّناه في سورتي الأنعام والكهف.
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [هود: ٣١] أي: بل أنا عبدٌ رسولٌ، لا أعلم من علم اللَّه إلا ما أعلمني به، ولا أقدرُ إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملكُ لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء اللَّه.
﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ يعني من أتباعه ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: ٣١] أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند اللَّه يوم القيامة، اللَّه أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، كما قالوا في المواضع الأخر ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: ١١١ - ١١٥].
وقد تطاولَ الزمانُ والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤] أي: ومع هذه المدة الطويلة فما آمنَ له إلا القليل منهم، وكان كلُّ ما انقرضَ جيلٌ وصَّوا منْ بعدَهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغَ ولدُه وعقلَ عنه كلامه وصَّاه فيما بينَه وبينه ألا يؤمن بنوح أبدًا ما عاش، ودائمًا ما بقي.
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحقِّ، ولهذا قال ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٧]
ولهذا قالوا: ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [هود: ٣٢ - ٣٣] أي: إنما يقدر على ذلك اللَّه ﷿، فإنه الذي لا يُعجزه شيءٌ ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقولُ للشيء كن فيكون.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [هود: ٣٤] أي: من يُرد اللَّه فتنتَه فلن يملكَ أحدٌ هدايتَه، هو الذي يَهدي منْ يشاءُ ويُضلُّ من يشاء، وهو الفعَّال لما يُريد، وهو العزيز الحكيم، العليمُ بمن يستحقُّ الهداية ومنْ يستحقُّ الغواية، وله الحكمة البالغة والحجَّة الدامغة.
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: ٣٦] وهذه تعزيةٌ لنوح ﵇ في قومه أنه لن يؤمنَ منهم إلا منْ قد آمنَ، وتسليةٌ له عما كان منهم إليه ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أي: لا يسوأنَّكَ ما جرى فإنَّ النصرَ قريبٌ، والنبأ عجيب ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧]، وذلك أن نوحًا ﵇ لما يئسَ من صَلاحهم وفَلاحِهم، ورأى أنَّهم لا خيرَ فيهم، وتوصلوا إلى أذيَّته ومخالفتِه وتكذيبه بكلِّ طريق من فعال ومقال، دعا عليهم دعوةَ غضبٍ، فلبَّى اللَّه دعوتَه، وأجابَ طلبتَه، قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ٧٥ - ٧٦].
وقال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦].
وقال تعالى: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١١٧ - ١١٨] وقال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: ١٠] وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون: ٢٦] وقال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٥ - ٢٧].
فاجتمعَ عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورِهم ودعوة نبيِّهم عليهم، فعند ذلك أمره اللَّه تعالى أن يصنعَ الفلكَ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظيرٌ قبلَها، ولا يكون بعدَها مثلها.
وقدَّم اللَّه تعالى إليه أنه إذا جاء أمرُه، وحلَّ بهم بأسُه الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، أنه لا يُعاوده فيهم ولا يُراجعه، فإنَّه لعلّه قد تُدركُه رقَّة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنَّه ليس الخبرُ كالمعاينة، ولهذا قال: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ [هود: ٣٧ - ٣٨] أي: يستهزئون به استبعادًا (١) لوقوع ما توعَّدهم به، ﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: ٣٨] أي: نحن الذين نسخرُ منكم، ونتعجَّبُ منكم في استمراركُم على كُفركم وعنادِكم الذي يقتضي وقوعَ العذاب بكم وحلوله عليكم ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود: ٣٩].
وقد كانت سجاياهم الكفرَ الغليظ، والعنادَ البالغَ في الدنيا، وهكذا في الآخرة، فإنَّهم يَجْحدون (٢) أيضًا أن يكونَ جاءَهم رسولٌ.
كما قال البخاري: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبدُ الواحد بن زياد، حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "يجيءُ نوح وأمَّتُه، فيقولُ اللَّه ﷿: هل بلَّغتَ؟ فيقولُ: نعم أي ربّ، فيقولُ لأمَّته: هل بلَّغكُم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبيٍّ.
فيقولُ لنوحٍ: منْ يشهدُ لكَ؟ فيقول: محمَّدٌ وأمَّتُه.
فنشهدُ أنه قد بلَّغَ".
وهو قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣].
والوسط: العدل.
فهذه الأمة تشهدُ على شهادة نبيِّها الصَّادق المصدوق، بأنَّ اللَّه قد بعثَ نوحًا بالحقِّ، وأنزلَ عليه الحقَّ، وأمره به، وأنه بلَّغه إلى أمَّته على أكمل الوجوه وأتمِّها، ولم يدعْ شيئًا مما ينفعُهم في دينهم إلا وقد أمرَهم به، ولا شيئًى مما قد يضرُّهم إلا وقد نهاهم عنه، وحذَّرهم منه.
وهكذا شأنُ جميع الرسل، حتَّى أنه حذَّر قومه المسيحَ الدَّجَّال، وإن كان لا يتوقَّعُ خروجَه في زمانهم، حذرًا عليهم وشفقةً ورحمةً بهم.
كما قالَ البخاريُّ: حدَّثنا عَبْدان، حدَّثنا عبدُ اللَّه، عن يُونس، عن الزُّهريِّ، قال سالم: قال ابنُ عمر: قامَ رسولُ اللَّه ﷺ في النَّاسِ فأثنى على اللَّه بما هو أهلُه، ثم ذكرَ الدَّجَّال، فقال: "إنِّي لأنذركُموهُ، وما من نبيٍّ إلا وقد أنذرَه قومَهُ، لقد أنذرَ نوحٌ قومَهُ، ولكني أقولُ لكم فيه قولًا لم يَقُلْه نبيٌّ لقومِه، تعلمونَ أنَّه أعورُ، وأنَّ اللَّه ليسَ بأعور".
وهذا الحديث في الصحيحين أيضًا: من حديث شَيْبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "ألا أحَدِّثكم عن الدَّجَّال حديثًا ما حدَّث به نبيٌّ قومه، إنَّه أعورُ، وإنَّه يجيءُ معه بمثالِ الجنَّة والنَّار، فالتي يقولُ إنها الجنَّة هي النَّار، وإني أنذركُم كما أنذرَ به نوحٌ قومَه" لفظ البخاري.
وقد قال بعضُ علماءِ السَّلف: لما استجابَ اللَّه له أمرَه أن يغرسَ شجرًا ليعملَ منه السفينة، فغرسَه وانتظره مئة سنة، ثم نجره في مئة أخرى، وقيل: في أربعينَ سنةً، فاللَّه أعلم.
قال محمد بن إسحاق: عن الثوري، وكانت من خشب السَّاج.
وقيل: من الصنوبر، وهو نصُّ التوراة.
قال الثوري: وأمره أن يجعلَ طولها ثمانينَ ذراعًا وعرضَها خمسينَ ذراعًا، وأن يطليَ ظاهرَها وباطنَها بالقار، وأن يجعلَ لها جؤجؤًا أزور (٣) يشقُّ الماء، وقال قتادة: كان طولُها ثلثمئة ذراع في عرض خمسين ذراعًا، وهذا الذي في التوراة على ما رأيته.
وقال الحسن البصري: ستمئة في عرض ثلاثمئة ذراع.
وعن ابن عباس: ألف ومئتا ذراع في عرض ستمئة ذراع.
وقيل: كان طولها ألفيْ ذراع وعرضُها مئة ذراع.
قالوا كلُّهم: وكان ارتفاعُها ثلاثين ذراعًا، وكانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشرة أذرع، فالسُّفلى للدَّوابِّ والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعُليا للطيور، وكان بابُها في عرضها، ولها غِطاءٌ من فوقها مُطبقٌ عليها.
(١) في المطبوع: استعبادًا؛ وهو تصحيف ظاهر.
(٢) "يجحدون": يُنكرون.
(٣) "جُؤجؤًا أزور": الجؤجؤ: صدر السفينة.
والأزور: المنحرف المائل.
مختارات