فقه الفكر والاعتبار (١)
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)} [آل عمران: ١٩٠، ١٩١].
وقال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤)} [النور: ٤٤].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهدى سبحانه من يعلم أنه يصلح لعبادته وطاعته، ويقوم بامتثال أمره ونهيه، ويصلح لسكنى دار كرامته.
وهدى واشترى أحسن أنواع الإنسان وهم المؤمنون كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)} [التوبة: ١١١].
وأمر هؤلاء بكل خير، ونهاهم عن كل شر، وأمرهم بكل حسن، وحذرهم من كل قبيح، ودعاهم إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
وأضل سبحانه من يعلم أنه لا يصلح لسكنى دار كرامته، ويعلم أنه لا يطيع أمره ونهيه، وخذل من استكبر عن عبادته وطاعته.
فهؤلاء لا يستحقون الهداية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)} [آل عمران: ٨٦].
والله عزَّ وجلَّ خلق في كل إنسان ثلاث أواني:
آنية الطعام والشراب، وهي المعدة.
وآنية المعلومات، وهي الدماغ.
وآنية الإيمان، وهي القلب.
وأمر سبحانه أن لا يوضع في الأولى إلا ما ينفعها ويصلحها من الطيبات التي أحلها الله عزَّ وجلَّ.
وخلق سبحانه العقل والدماغ والمخ، وأمرنا باستعمالها حسب أمره، بالتفكر في عظمة الله وجلاله وجماله، وآياته ومخلوقاته، واستقبال الوحي والعمل بموجبه، وتعليمه والدعوة إليه.
وخلق سبحانه القلوب وجعلها محل الإيمان، وأمرنا بالتفكر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، ليزيد الإيمان، فتأتي الطاقة والمحبة والرغبة للقيام بأعمال الدين، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.
فلله عزَّ وجلَّ على العبد في كل عضو من أعضائه أمر.
وله عليه فيه نهي.
وله فيه نعمة.
وله به منفعة ولذة.
فإذا قام العبد لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيه، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به.
وإن عطل أمر الله ونهيه فيه، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.
ولله عز وجل على كل عبد، في كل وقت من أوقاته، عبودية تقدمه إليه، وتقربه منه، وتحببه إليه.
فإن شغل وقته بعبودية ذلك الوقت، تقدم إلى ربه، ونال رضاه.
وإن شغله بهوى وراحة وبطالة تأخر فخاب وخسر.
وجعل سبحانه كل عضو من أعضاء الإنسان آلة لشيء إذا استعمل فيه فهو كماله:
فالعين آلة للنظر.
والأذن آلة للسمع.
والأنف آلة للشم.
واللسان آلة للنطق.
والرِّجل آلة للمشي.
واليد آلة للبطش.
والفرج آلة للنسل.
والقلب للتوحيد والإيمان والمعرفة.
والعقل للتفكر والتدبر والتذكر.
وإيثار ما ينفع على ما يضر.
وتقديم المصالح.
ودرء المفاسد.
والعبد كالشجرة آلة للعمل والإنتاج، فمتحرك بطاعة، ومتحرك بمعصية، وداع إلى الخير، وداع إلى الشر، وحامل مسك، وحامل بعر.
ولا يزال العبد في تقدم أو تأخر، فإما متقدم إلى الله والجنة، أو متأخر إلى العذاب والنار، ولا وقوف في الطريق البتة، فقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)} [المدثر: ٣٦، ٣٧].
فأعلى الفكر وأجله، وأعظمه وأنفعه، وأكبره وأشرفه، ما كان لله والدار الآخرة.
فما كان لله تبارك وتعالى فهو أنواع:
أحدها: التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة عظمة الله وجلاله وجماله وكماله من خلال ذلك.
الثاني: التفكر في آيات الله الكونية، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده.
الثالث: التفكر في آيات الله المنزلة، وتعقلها، وفهم المراد منها.
الرابع: التفكر في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، ومعرفة سعة رحمته ومغفرته وحلمه.
ودوام الفكر والذكر فيما سبق يزيد الإيمان، ويصبغ القلب بمعرفة عظمة الله وجماله وكماله صبغة تامة، وذلك بفضل الله يؤتيه من يشاء: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨)} [البقرة: ١٣٨].
الخامس: الفكر في عيوب النفس وآفاتها، وعيوب العمل وآفاته.
السادس: الفكر في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فجميع مصالح الدنيا والآخرة إنما تنشأ من حفظ الوقت، ومن أضاعه ضاعت مصالحه الدنيوية والأخروية.
ووقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته.
واستدعاء خواطر اللهو واللعب أخف شيء على النفس الفارغة، وأثقل شيء على النفس الشريفة المطمئنة.
والله سبحانه خلق الإنسان، وخلق فيه طاقات كثيرة ينتفع بها أهمها:
الطاقة البدنية.
والطاقة العقلية.
والطاقة الروحية.
والطاقة التناسلية.
فالأولى للحركة، والثانية للعلم، والثالثة للإيمان، والرابعة للإنجاب.
ومكان الأولى في الأعضاء والجوارح.
ومكان الثانية في المخ والدماغ.
ومكان الثالثة في القلب.
ومكان الرابعة في الجهاز التناسلي.
ولا بد للمسلم من الاستفادة من هذه الطاقات للدين.
وجميع هذه الطاقات تبدأ.
ثم تقوى.
ثم تضعف.
ثم تنتهي بالموت، إلا الطاقة الروحية، فإنها تبدأ في الحياة، وتبقى بعد الموت، ولكنها معارضة بالنفس امتحاناً وابتلاء.
النفس تريد تكميل الشهوات.
والروح بما فيها من الإيمان تريد تكميل أوامر الله ومحبوباته.
والتشبه بالملائكة في الطاعة والعبادة.
وحال الإنسان وحركته مقيدة إما بنفسه وشهواته.
وإما بإيمانه وأعماله.
مختارات

