ذِكْر قصة هود عليه السلام (٣)
وأما تفصيل إهلاكهم، فكما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين (١)، فطلبوا السُّقيا، فرأوا عارضًا (٢) في السماء وظنُّوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب، ولهذا قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ [الأحقاف: ٢٤] أي: من وقوع العذاب، وهو قولهم: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٢] ومثلها في الأعراف.
وقد ذكرَ المفسرون وغيرُهم هاهنا الخبرَ الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، قال: فلما أبوا إلا الكفرَ باللَّه أمسكَ عنهم القَطْر (٣) ثلاثَ سنين، حتى جَهدَهم ذلك، قال: وكانَ النَّاسُ إذاجَهَدهم أمرٌ في ذلك الزمان، فطلبوا من اللَّه الفرجَ منه، إنما يطلبونَه بحرمِهِ ومكانِ بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكانَ سيدهم إذ ذاك رجلًا يُقال له معاوية بن بَكْر، وكانت أمُّه من قوم عاد، واسمها جلهدة ابنة الخيبري.
قال: فبعثَ عادٌ وفدًا قريبًا من سبعينَ رجلًا ليستسقوا لهم عند الحرم، فمَرُّوا بمعاوية بن بكر بظاهر مكَّة، فنزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمرَ، وتُغنيهم الجرَادَتان -قَيْنتان لمعاوية- وكانوا قد وصلوا إليه في شهر.
فلمَّا طالَ مقامُهم عندَه وأخذته شفقةٌ على قومِه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمِلَ شعرًا، فعرَّض (٤) لهم بالانصراف، وأمرَ القينتين أن تغنِّيهم به، فقال: [من الوافر]
ألا يا قيلُ ويحك قمْ فهَيْنمْ … لعلّ اللَّه يُصبحنا غَمامًا (٥)
فيسقي أرضَ عادٍ إنَّ عَادا … قد امسوا لا يُبْينُونَ الكَلاما
مِن العَطَشِ الشديدِ فليسَ نرجو … به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما
وقد كانتْ نساؤُهمُ بخيرٍ … فقد أمستْ نساؤهمُ عَيامَى (٦)
وإنَّ الوحشَ تأتيهم جهارًا … ولا يخشى لعاديٍّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم … نهارَكُمُ وليلَكُمُ التماما
فقُبِّحَ وفدُكم من وَفْدِ قومٍ … ولا لقُّوا التَّحيّةَ والسَّلاما
قال: فعندَ ذلكَ تنبِّه القومُ لما جاؤوا له، فنَهضوا إلى الحرَم ودَعَوا لقومِهم، فدعا داعيهم، وهو قيْل بن عتر، فأنشأ اللَّه سحاباتٍ ثلاثًا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مُنادٍ من السماء: اخترْ لنفسك ولقومِك من هذا السحاب.
فقال: اخترتُ السَّحابة السَّوْداءَ، فإنها أكثرُ السَّحاب ماءً، فناداه: اخترتَ رمادًا رِمْددًا لا تُبقي من عاد أحدًا، لا والدًا تتركُ ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، إلا بني اللُّوذية المُهْدَى (٧).
قال: وهو بطنٌ من عاب كانوا مقيمينَ بمكَّة، فلم يُصبهم ما أصابَ قومَهم.
قال: ومَنْ بقي من أنسالهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
قال: وساق اللَّه السَّحابة السَّوداءَ التي اختارَها قَيْلُ بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرجَ عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوْها استبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤ - ٢٥] أي: كل شيءٍ أمرت به.
فكان أوَّل من أبصر ما فيها وعرفَ أنها ريحٌ -فيما يذكرون- امرأةٌ من عاد يُقال لها "قهد" (٨) فلما تبيَّنت ما فيها صاحتْ ثم صعِقَتْ، فلمَّا أفاقت، قالوا: ما رأيت يا قهد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُبِ النَّار أمامَها رجال يَقُودونها، فسخَّرها اللَّه عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام حسومًا، والحسوم: الدائمة.
فلم تدعْ من عاد أحدًا إلا هلكَ.
قال: واعتزلَ هودٌ فيما ذُكر لي في حظيرةٍ هو ومن معه من المؤمنينَ، ما يُصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود وتلتذ الأنفسُ، وإنها لتمرُّ على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض، وتدمغُهم بالحجارة، وذكر تمامَ القصة.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا في مسنده يُشبه هذه القِصَّة، فقال: حدَّثنا زيدُ بن الحُبَاب، حدَّثني أبو المنذر سَلَّامُ بن سُليمان النَّحْوي، حدَّثنا عاصمُ بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث -وهو ابن حسَّان، ويقال: ابن يزيد البَكْري- قال: خرجتُ أشكو العلاءَ بن الحضرمي إلى رسول اللَّه ﷺ، فمررتُ بالرَّبَذة، فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطَعٌ بها، فقالت لي: يا عبد اللَّه! إن لي إلى رسول اللَّه ﷺ حاجةً، فهل أنت مُبْلغي إليه؟ قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجدُ غاصٌّ بأَهلِه، وإذا رايةٌ سوداءُ تَخْفقُ، وإذا بلالٌ مُتقلِّدٌ السيفَ بينَ يديْ رسول اللَّه ﷺ، فقلتُ: ما شأنُ الناس؟ قالوا: يُريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهًا.
قال: فجلست.
قال: فدخلَ منزله -أو قال: رَحْله- فاستأذنتُ عليه، فأُذنَ لي، فدخلتُ، فسلَّمتُ، فقال: "هل كانَ بينكم وبينَ بني تميم شيٌ؟ " فقلت: نعم، وكانت لنا الدائرة عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطَع بها، فسألتني أن أحملَها إليكَ، وها هي بالباب، فأذنَ لها فدخلتْ، فقلت: يا رسول اللَّه! إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء، فإنَّها كانت لنا.
قال: فحميتِ العجوزُ واستوفزتْ، وقالت: يا رسول اللَّه! فإلى أين تضطر مضرك؟ قال: فقلتُ: إن مثلي ما قال الأول: مِعْزى حملتْ حتفَها، حملتُ هذه الأمَة ولا أشعرُ أنها كانت لي خصمًا، أعوذُ باللَّه ورسوله أن أكونَ كوافد عادٍ.
قال: "هيه، وما وافدُ عاد؟ " وهو أعلم بالحديث مني، ولكن يستطعمه.
قلت: إن عادًا قُحطوا فبعثوا وفدًا لهم يُقال له: قَيْل، فمرَّ بمعاوية بن بكر، فأقام عندَه شهرًا يَسقيه الخمرَ، وتُغنِّيه جاريتان يُقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهرُ خرجَ إلى جبال تِهامةَ، فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلمُ أنِّي لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسقِ عادًا ما كنتَ تسقيه، فمرَّتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنُودي منها: اخترْ.
فأومأ إلى سحابةٍ منها سوداءَ، فنُودي منها: خذها رمادًا رَمْددًا، لا تُبقي من عادٍ أحدًا.
قال: فما بلغني أنه بُعث عليهم من الرِّيح إلا كَقَدْر ما يَجري في خَاتمي هذا من الرِّيح حتَّى هلكُوا.
قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد.
وهكذا رواه الترمذي: عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحُباب به.
ورواه النسائي: من حديث سلَّام أبي المنذر، عن عاصم بن بَهْدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجه.
وهكذا أوردَ هذا الحديثَ وهذه القِصَّة عند تفسير هذه القصة غيرُ واحد من المُفسِّرين: كابن جرير وغيره.
وقد يكونُ هذا السِّياق لإهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكرَه ابنُ إسحاف وغيرُه ذكرًا لمكَّةَ، ولم تُبنَ إلا بعد إبراهيم الخليل حينَ أسكنَ فيها هاجرَ وابنَه إسماعيل، ونزلت جرهُم عندَهم كما سيأتي، وعادٌ الأولى قبلَ الخليل، وفيه: ذِكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخِّر عن زمان عادٍ الأولى، لا يُشبه كلامَ المتقدِّمين، وفيه: أن في تلك السحابة شررَ نارٍ، وعادٌ الأولى إنما أُهلكوا بريح صرصر (٩).
وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردةُ والعاتية الشديدة الهبوب: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾ [الحاقة: ٧] أي: كوامل متتابعات.
قيل: كان أولها الجمعة، وقيل: الأربعاء ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] شبَّههم بأعجاز النخل التي لا رؤوس لها، وذلك لأن الريحَ كانت تجيءُ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه، فيبقى جثَّةً بلا رأس، كما قال ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ [القمر: ١٩] أي: في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] ومن قال: إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به فهذا إليهم (١٠)، فقد أخطأ وخالفَ القرآن فإنه قال في الآية الأخرى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾ [فصلت: ١٦] ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة في الثمانية مشؤومة، وهذا لا يقولُه أحدٌ، وإنما المراد في أيام نحسات، أي: عليهم.
وقال تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: ٤١] أي: التي لا تنتج خيرًا، فإن الريحَ المفردة لا تثير سحابًا ولا تلقح شجرًا، بل هي عقيم لا نتيجةَ خيرٍ لها، ولهذا قال: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات: ٤٢] أي: كالشيء البالي الفاني، الذي لا يُنتفع به بالكلية.
وقد ثبتَ في الصحيحين: من حديث شعبة، عن الحكم، عن مجاهد عن ابن عباس، عن رسول اللَّه ﷺ؛ أنه قال: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهلكتْ عادٌ بالدَّبُور".
(١) ممحلين مسنتين: أصابهم الجدب والقحط.
(٢) عارضًا: سحابًا.
(٣) كذا في الأصل، وفي المطبوع: المطر.
(٤) في المطبوع: فيعرض.
(٥) فهينم: من الهينمة، وهي الكلام الخفي.
وفي تاريخ الطبري: يسقينا غمامًا، وفي المطبوع: يمنحنا.
(٦) كذا في الأصل وتاريخ الطبري، وفي المطبوع: أياما.
وعَيَامى: جمع عيمى، وهي المرأة التي مات عنها زوجها ولا مال لها.
(٧) في المطبوع: الهمدا.
(٨) في تاريخ الطبري: مَهْدد.
(٩) الريح الصرصر: هي الريح الباردة الشديدة.
(١٠) كذا في الأصل، وفي المطبوع: لهذا الفهم، وما يذكر عن التشاؤم بيوم الأربعاء، فهو غير صحيح.
مختارات