ذِكْر قصة هود عليه السلام (٤)
وأما قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٢١] فالظاهرُ أن عادًا هذه هي عادٌ الأولى، فإن سياقَها شبيهٌ بسياق قوم هود وهم الأولى، ويحتمل أن يكونَ المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية، ويدلُّ عليه ما ذكرنا، وما سيأتي من الحديث عن عائشة.
وأما قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فإن عادًا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجوِّ كالسحاب ظنُّوه سحابَ مطرٍ، فإذا هو سحابُ عذابٍ اعتقدوه رحمةً، فإذا هو نقمةٌ، رجوا فيه الخير، فنالوا منه غايةَ الشر، قال اللَّه تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ [الاحقاف: ٢٤].
أي: من العذاب، ثم فسَّره بقوله: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: ٢٤] يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية، فلم تُبْق منهم أحدًا، بل تتبَّعتهم حتى كانت تدخلُ عليهم كهوفَ الجبال والغيران (١)، فتلفُّهم وتخرجهم وتهلكهم، وتُدمِّر عليهم البيوتَ المحكمة والقصورَ المشيَّدة، فكما مُنوا بقوتهم وشدتهم، قالوا: من أشدُّ منا قوة؟ سلَّط اللَّه عليهم الذي هو أشد منهم قوَّةً وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح أثارتْ في آخر الأمر سحابةً ظنَّ منْ بقيَ منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم، وغياث لمن بقيَ منهم، فأرسلَها اللَّه عليهم شررًا ونارًا، كما ذكره غير واحد، ويكون هذا كما أصابَ أصحابَ الظُّلَّة من أهل مدينَ، وجمع لهم بين الرياح الباردة وعذاب النار، وهو أشدُّ ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادَّة، مع الصيحة التي ذكرَها في سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ واللَّه أعلم.
وقد قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدَّثنا ابن فضيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "ما فتحَ اللَّه على عادٍ من الريح التي
أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرَّتْ بأهل البادية فحملتْهم ومواشيَهم وأموالَهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهلُ الحاضرة من عاد الريحَ وما فيها ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فألقتْ أهل الباديةِ ومواشيَهم على أهل الحاضرة".
وقد رواه الطبراني: عن عبدان بن أحمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "ما فتحَ اللَّه على عادٍ من الريح إلا مثل موضعِ الخاتم، ثم أرسلتْ عليهم البدوَ إلى الحضَر، فلما رآها أهلُ الحَضَر، قالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ مستقبل أوديتنا، وكان أهل البوادي فيها، فألقي أهلُ البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا".
قال: عَتتْ على خُزَّانها حتى خرجتْ من خِلال الأبواب.
قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.
والمقصودُ أن هذا الحديث في رفعه نظرٌ.
ثم قد اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب، واللَّه أعلم.
وظاهرُ الآية أنهم رأوا عارضًا، والمفهوم منه لمعة السحاب، كما دلَّ عليه حديث الحارث بن حسَّان البكري إن جعلناه مفسرًا لهذه القصة.
وأصرحُ منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدَّثنا أبو الطاهر، حدَّثنا ابنُ وهب، سمعتُ ابنَ جريج، يُحدِّثنا، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة ﵂، قالت: كان رسول اللَّه ﷺ إذا عصفتِ الريحُ قال: "اللهمَّ إني أسألُك خيرها وخير ما فيها وخيرَ ما أُرسلَتْ به، وأعوذُ بكَ من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلتْ به"؟ قالت: وإذا عَبَبت (٢) السَّماءُ تَغيَّرَ لونُه وخرجَ ودخلَ، وأقبلَ وأدبرَ، فإذا أمطرتْ سُرِّي عنه، فعرفتْ ذلكَ عائشةُ فسألتْه، فقال: "لعلَّه يا عائشةُ كما قال قوم عاد ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] ".
رواه التِّرْمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه، من حديث ابن جريج.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدَّثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد اللَّه بن وهب، أنبأنا عمرو -هو ابن الحارث- أن أبا النضر حدَّثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة؛ أنها قالت: ما رأيتُ رسول اللَّه ﷺ: مستجمعًا ضاحكًا قطُّ حتى أرى منه لهواتِه، إنما كان يَتَبَسَّمُ.
وقالت: كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرفَ ذلك في وجهه.
قالت: يا رسولَ اللَّه! الناسُ إذا رأوا الغيمَ فَرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأراكَ إذا رأيتَه عُرفَ في وجهكَ الكراهية؟ فقال: "يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّبَ قومُ نوحٍ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ" فقالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾.
فهذا الحديثُ كالصريح في تغاير القِصَّتين كما أشرنا إليه أولًا، فعلى هذا تكون القِصَّة المذكورة في سورة الأحقاف خبرًا عن قوم عاد الثانية، وتكون بقيَّةُ السياقات في القرآن خبرًا عن عادٍ الأولى، واللَّه أعلم بالصواب.
وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب.
وقد قدمنا حجَّ هودٍ عليه السلام عند ذكر حجِّ نوح عليه السلام.
ورُوي عن أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه ذكرَ صفةَ قبر هُودٍ في بلاد اليمن.
وذكرَ آخرون أنه بدمشقَ، وبجامِعها مكانٌ في حائطِه القِبْليّ يزعمُ بعضُ النَّاس أنَّه قبرُ هودٍ، واللَّه أعلم.
(١) الغيران: المغاور، جمع مغارة.
(٢) في صحيح مسلم (تخيَّلت) أي يخيل إليه أنها ماطرة.
مختارات