فقه حقيقة العبودية (٧)
إن الكون كله عابد لربه يسبح بحمده، السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح الدائرة في الجو وكافة المخلوقات في السموات والأرض كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
وإذا كان الكون كله عابداً لربه وبارئه وفاطره كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)} [الإسراء: ٤٤].
فإن استكبار الإنسان عن هذه العبودية التي تؤديها جميع المخلوقات لربها، استكباره نشاز وشذوذ في الوجود، يجعل الناشز غريباً شاذاً شائهاً في الوجود، مع ما أنعم الله عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفضّله على كثير من خلقه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)} [الانفطار: ٦ - ٨].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)} [النور: ٤١، ٤٢].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)} [الحج: ١٨].
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإيمان به، والإنابة إليه، وطلب مرضاته.
وأخلى لسانه من ذكر ربه، والثناء عليه، وأخلى جوارحه من شكره وطاعته، فلم يرد من نفسه ذلك ونسي ربه لم يرد الله سبحانه أن يعيذه من ذلك الشر، ونسيه كما نسيه، وقطع الإمداد الواصل إليه منه، كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تنال الله من عباده كما قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)} [الحج: ٣٧].
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، وخلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل والسوء كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)} [الحشر: ١٩].
وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١)} [المائدة: ٤١].
فعدم إرادة الله تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم، أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
فالذي إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير بأنواعه التي لا يحصيها إلا هو، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه.
فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة، وبعقوبته لهم به تارة، وإليهم انتهت غايته ووقوعه.
فسبحان من له الملك والحمد، العدل في قضائه، الحكيم في أفعاله.
وإذا كان الإنسان إنما يعبد ربه وحده ويستعين به وحده فقد تخلص الإنسان من استذلال غيره، وفي ذلك كمال العزة والغنى له.
والله يريد لعبده مع غيره هذا الكمال، ويريد لعبده معه الذلة والافتقار كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)} [الفاتحة: ٥].
فكمال المسلم بأمرين:
ذلته وافتقاره إلى ربه.
وعزته وغناه عما سواه.
والقوى الإنسانية بالنسبة للمسلم نوعان:
الأولى: قوة مهتدية تؤمن بالله وتتبع منهج الله، فهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون معها على نشر الحق والخير والصلاح، وهم المؤمنون بالله.
الثانية: قوة ضالة لا تؤمن بالله ولا تتبع منهجه، فهذه يجب أن يدعوها إلى الحق، فإن أبت وآذت حاربها وقاتلها كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)} [البقرة: ١٩٣].
ولا يضر المسلمين ولا يخيفهم أن تكون قوة هؤلاء ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها تفقد قوتها، تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها، وتخدع بأشباحها من لا إيمان له، والمخلوقات كلها في قبضة الله، ينجي بها من يشاء ويهلك بها من يشاء: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)} [البقرة: ٢٤٩].
وفي خلق الإنسان عجائب في ظاهره وباطنه، وفي أسراره وميوله.
فالنفس الإنسانية فيها ميل فطري إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تسكن ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وتطمئن به، يتم في الحس كما يتم في النفس، فحينئذ تهدأ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً.
وعلى هذا الأساس الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه، شرع الله الشعائر التعبدية كلها كالصلاة والصيام والأذكار ونحوها.
فهذه الشعائر لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً كالقيام والركوع والسجود والتكبير والقراءة في الصلاة، والإحرام من الميقات واللباس المعين والطواف والسعي والدعاء والتلبية والنحر والحلق في الحج، والنية، والامتناع عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.
وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف الله بين ظاهر الإنسان وباطنه، ويلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد
الذات الإلهية عن كل تصور حسي.
وكذلك النهي عن التشبه بالكفار كاليهود والنصارى وغيرهم في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعرهم الباطنة.
فنهى الله عزَّ وجلَّ عن التشبه بهم في مظهر أو لباس أو حركة أو سلوك؛ لأن ذلك يجر إلى التشبه بهم في الباطن.
ثم الله عزَّ وجلَّ نهى عن التلقي من غير الله، ونهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم في الأرض، فالهزيمة الداخلية هي التي تندس في النفس لتقلد هذا المجتمع.
وقد أخرج الله المسلمين وبعثهم ليكونوا في مكان قيادة البشرية، فعليهم أن يستمدوا طريقة حياتهم كما يستمدوا عقيدتهم من المصدر الذي خلقهم واختارهم للقيادة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
والمسلمون هم الأعلون، وهم الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس، فلا يليق بهم أن يأخذوا من الأقل منهم، ويقلدوا الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه، فالإيمان لا يطيق له في القلب شريكاً، ولا يقبل شعاراً له غير الشعار الذي جاء عن الله ورسوله، وجعله الله مميزاً لهذه الأمة عن غيرها في الشعائر والشرائع، والآداب والأخلاق.
ومعرفة المسلم بأن غاية وجوده هو العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله، من شأنه أن يرفعه إلى الأفق الأعلى، والأدب الأسنى مع أوامر ربه، فهو يسمع ويطيع لأن الله وعده على ذلك الجنة.
فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله.
وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض.
فالأولى به أن لا يطغى ولا يتجبر، وأولى به أن لا يتعسف ولا يستعجل، وأن لا يركب الصعب من الأمور.
فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب المسنون في حدود طاقته.
فلا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، ولا يستبد به القلق، فكل شيء بقدر، وهو يعبد ربه في كل خطوة، ويحقق غاية وجوده في كل خطرة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
والخلق جميعاً يقفون أمام الرب وأمام الإله موقف العبودية، لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يتقدم بين يدي ربه، ولا يجرؤ على الشفاعة عنده إلا بإذنه.
مختارات