ذِكْر وصية نوح عليه السلام لابنه
قال الإمام أحمد: حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حمَّاد بن زيد، عن الصَّقْعب بن زُهير، عن زيد بن أسلم، قال حمَّاد -أظنُّه عن عطاء بن يسار- عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: كنَّا عند رسولِ اللَّه ﷺ، فجاءَ رجلٌ من أهل البادية عليه جُبَّة سيجان (١) مزرورةٌ بالديباج، فقال: ألا إنَّ صاحبَكم هذا قد وضعَ كلَّ فارس ابنَ فارس، قال: يُريدُ أن يضعَ كل فارس ابن فارس، ويرفعَ كلَّ راع ابن راع.
قال: فأخذَ رسولُ اللَّه ﷺ بمجامع جُبَّتِه، وقال: "ألا أرى عليكَ لباسَ منْ لا يعقل؟ ".
ثم قال: "إنّ نبيَّ اللَّه نوحًا لما حضرته الوفاةُ قال لابنه: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوصيةَ: آمُرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين؛ آمرك بلا إله إلا اللَّه، فإنَّ السماوات السبع والأرضينَ السبع لو وُضِعتْ في كفَّةٍ، ووُضعتْ لا إله إلا اللَّه في كفةٍ رجحتْ بهنَّ لا إلَه إلا اللَّه، ولو أنَّ السماواتِ السبع والأرضينَ السبع كنَّ حلقةً مبهمةً فضمَّتهنَّ لا إله إلا اللَّه وسبحان اللَّه وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يُرزق الخلق.
وأنهاك عن الشرك والكبر".
قال: قلت -أو قيل- يا رسولَ اللَّه هذا الشركُّ قد عرفناه، فما الكبر؟ أن يكونَ لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال: "لا".
قال: هو أن يكون لأحدنا حلَّة يلبسها؟ قال: "لا".
قال: هو أن يكون لأحدنا دابَّه يركبها؟ قال: "لا".
قال: هو أن يكون لأحدنا أصحابٌ يجلسون إليه؟ قال: "لا" قلت -أو قيل- يا رسول اللَّه! فما الكبر؟ قال: "سَفهُ الحَقِّ وغَمْصُ النَّاس" وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
ورواه أبو القاسم الطبراني: من حديث عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قال: "كان في وصية نوح لابنه: أُوصيكَ بخصلتين، وأنهاكَ عن خصلتين" فذكرَ نحوَه.
وقد رواه أبو بكر البزار: عن إبراهيم بن سعيد، عن أبي معاوية الضرير، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ.
والظاهر أنه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص كما رواه أحمد والطبراني، واللَّه أعلم.
ويزعمُ أهلُ الكتاب أن نوحًا لما ركبَ في السفينة كان عمره ستمئة سنة.
وقدَّمنا عن ابن عبَّاس مثله، وزاد: وعاش بعد ذلك ثلثمئة وخمسين سنة، وفي هذا القول نظر، ثم إن لم يمكن الجمعُ بينه وبينَ دلالة القرآن فهو خطاٌ محضٌ، فإنَّ القرآن يقتضي أن نوحًا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطُّوفان ألف سنة إلا خمسين عامًا، كما قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤] ثمَّ اللَّه أعلمُ كم عاشَ بعد ذلك، فإن كان ما ذكر محفوظًا عن ابن عباس، من أنه بعث وله أربعمئة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمئة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمئة وثمانين سنة.
وأما قبرُه، فروى ابنُ جرير والأزرقي: عن عبد الرحمن بن سابط -أو غيره من التابعين مرسلًا- أنَّ قبرَ نوح بالمسجد الحرام.
وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين من أنه ببلدة بالبقاع تُعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامعٌ قد بُني بسبب ذلك فيما ذكر، واللَّه أعلم.
(١) وسيجان: جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر.
وسفه الحق: جهله، والاستخفاف به وغَمْص النَّاس: الاستهانة بهم واحتقارهم وازدراؤهم.
مختارات