ذِكْر قصة نوح عليه السلام (٦)
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير: من طريق عليّ بن زيد بن جُدعان، عن يوسفَ بن مِهْران، عن ابن عبَّاس، أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثتَ لنا رجلًا شهدَ السفينة فحدَّثنا عنها! فانطلقَ بهم حتى أتى إلى كثيبٍ (١)من تُرابٍ، فأخذَ كفًّا من ذلك التراب بكفِّه، قال: أتدرون من هذا؟ قالوا اللَّه ورسوله أعلم.
قال: هذا كعب حام بن نوح.
قال: وضربَ الكثيبَ بعصاه، وقال: قمْ بإذن اللَّه، فإذا هو قائمٌ ينفضُ الترابَ عن رأسِه قد شابَ.
فقال له عيسى: هكذا هلكتَ؟ قال: لا ولكنِّي متُّ وأنا شابٌّ، ولكني ظننتُ أنَّها السَّاعة، فمن ثَمَّ شِبْتُ.
قال: حدَّثنا عن سفينة نوح.
قال: كان طولُها ألفَ ذراع ومائتي ذراع، وعرضُها ستمئة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ، فطبقةٌ فيها الدوابُّ والوحشُ، وطبقةٌ فيها الإنس وطبقةٌ فيها الطير.
فلما كثرَ أرواثُ الدوابِّ أوحى اللَّه إلى نوح أن اغمز (٢) ذنبَ الفيل، فغمزَه فوقعَ منه خنزيرٌ وخنزيرةٌ، فأقبلا على الرَّوْث، ولما وقعَ الفأرُ بخرز السفينة يقرضُه، أوحى اللَّه إلى نوح أن اضربْ بينَ عيني الأسدِ، فخرجَ من منخره سنُّور وسنُّورة، فاقبلا على الفأر.
فقال له عيسى: كيف عرفَ نوحٌ أن البلاد قد غَرِقتْ؟ قال: بعثَ الغراب يأتيه بالخبر، فوجدَ جيفةً فوقعَ عليها، فدعا عليه بالخوف، فذلك لا يألفُ البيوتَ.
قال: ثم بعثَ الحمامةَ فجاءت بورقِ زيتونٍ بمنقارِها وطيْنٍ برجلِها، فعلمَ أنَّ البلادَ قد غَرِقَتْ، فطوَّقها الخضرةَ التي في عُنُقِها، ودعا لها أن تكونَ في أُنسٍ وأمانٍ، فمن ثمَّ تألفُ البيوتَ.
قال: فقالوا: يا رسول اللَّه: ألا ننطلقُ به إلى أهلينا، فيجلسُ معنا ويُحدِّثنا؟ قال: كيف يتبعُكم منْ لا رزقَ له.
قال: فقال له: عُدْ بإذن اللَّه، فعادَ ترابًا.
وهذا أثر غريب جدًا.
وروى علباءُ بن أحمر: عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، قال: كان مع نوحٍ في السفينة ثمانونَ رجلًا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مئة وخمسين يومًا، وإن اللَّه وجَّهَ السفينةَ إلى مكَّة، فدارت بالبيتِ أربعينَ يومًا، ثم وجَّهها إلى الجُودِيِّ (٣) فاستقرَّتْ عليه، فبعثَ نوحٌ الغراب ليأتيَه بخبر الأرض، فذهبَ فوقعَ على الجِيفَ فأبطأ عليه، فبعثَ الحمامةَ فأتته بورقِ الزيتونِ ولطختْ رِجْلَيْها بالطِّين، فعرفَ نوحٌ أنَّ الماءَ قد نضبَ، فهبط إلى أسفلِ الجُوديِّ، فابتنى قريةً وسمَّاها ثمانينَ، فأصبحوا ذاتَ يومٍ وقد تبلبلتْ ألسنتُهم على ثمانينَ لغةً، إحداها العربيُّ، وكان بعضُهم لا يَفْقهُ كلامَ بعضٍ، فكانَ نوحٌ يُعبِّرُ عنهم.
وقال قتادةُ وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فسارُوا مئة وخمسين يومًا، واستقرَّت بهم على الجوديّ شهرًا، وكان خروجُهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم.
وقد روى ابن جرير خبرًا مرفوعًا يُوافق هذا وأنهم صامُوا يومَهم ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو جعفر، أخبرنا عبدُ الصمد بن حَبيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد اللَّه، عن شُبَيْل، عن أبي هريرة، قال: مرَّ النبيُّ بأناس من اليهود وقد صامُوا يومَ عاشُوراء، فقال: "ما هذا من الصوم؟ " فقالوا: هذا اليوم الذي نجَّا اللَّه موسى وبني إسرائيلَ من الغَرَقِ، وغَرَّقَ فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينةُ على الجُوديِّ، فصامَ نوحٌ وموسى شكرًا للَّه، فقال النبيُّ: "أنا أحقُّ بموسى وأحقُّ بصومِ هذا اليوم".
وقال لأصحابه: "مَنْ كانَ منكم أصبحَ صائمًا فليتمَّ صومَه، ومَنْ كان منكم قد اصابَ من غداءِ أهلِه فليتمَّ بقيَّةَ يومِه".
وهذا الحديث له شاهدٌ في الصحيح من وجه آخر، والمستغرب ذكرُ نوحٍ أيضًا، واللَّه أعلم.
وأما ما يذكرُه كثيرٌ من الجهلة أنهم أكلوا من فُضولِ أزوادِهم ومِنْ حُبوبٍ كانت معَهم قد استصحبُوها، واطَّحنُوا الحبوبَ يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لمَّا انهارتْ من الضِّياء بعد ما كانوا في ظُلْمة السفينة، فكلُّ هذا لا يصحُّ فيه شيء، وإنما يُذكر فيه آثارٌ منقطعة عن بني إسرائيل، لا يُعتمدُ عليها ولا يُقتدى بها، واللَّه أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أرادَ اللَّه أن يكفَّ ذلك الطُّوفان أرسلَ ريحًا على وجه الأرض، فسكنَ الماءُ وانسدَّتْ ينابيعُ الأرض، فجعلَ الماء ينقصُ ويغيض ويُدْبرُ، وكان استواءُ الفُلْكِ فيما يزعمُ أهلُ التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رُئيَتْ رُؤوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلكَ أربعونَ يومًا فتحَ نوحٌ كُوَّةَ الفُلْكِ التي صنعَ فيها، ثم أرسلَ الغُرابَ لينظرَ له ما فعلَ الماء، فلم يرجع إليه، فأرسلَ الحمامةَ فرجعتْ إليه لم يجد لرجلِها موضعًا، فبسط يدَه للحمامة فأخذَها فأدخلَها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعلَ الماءُ فلم ترجع، فرجعتْ حينَ أمستْ وفي فيها ورقُ زيتونةٍ، فعلمَ نوحٌ أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض، ثم مكثَ سبعة ايام، ثم أرسلَها، فلم ترجع إليه، فعلم نوحٌ أن الأرض قد برزتْ، فلما كملت السنة -فيما بين أنْ أرسلَ اللَّه الطُّوفان إلى أن أرسلَ نوحٌ الحمامةَ- ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين، برزَ وجهُ الأرضِ، وظهرَ البرُّ، وكشفَ نوحٌ غطاءَ الفلك.
وهذا الذي ذكرَه ابنُ إسحاق هو بعينه مضمونُ سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
قال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه ﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: ٤٨].
وفيما ذكر أهل الكتاب أن اللَّه كلَّم نوحًا قائلًا له: اخرجْ من الفُلْك أنتَ وامرأتك وبنوكَ ونساءُ بنيكَ معكَ، وجميع الدواب التي معك، ولينموا وليكثروا في الأرض، فخرجوا، وابتنى نوحٌ مذبحًا للَّه، وأخذ من جميع الدوابِّ الحلال والطير الحَلال فذبحها قربانًا إلى اللَّه، وعَهدَ اللَّه إليه ألا يعيدَ الطوفان على أهل الأرض، وجعلَ تذكارًا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق.
قال بعضهم: فيه إشارة إلى أنه قوسٌ بلا وتر، أي: أن هذا الغمام لا يُوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا.
قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابرًا عن كابرٍ من لدن كنوفرت -يعني آدم- إلى زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عبَّاد النيران وأتباع الشيطان.
وهذا سفسطة، وكفرٌ فظيع، وجهل بليغ، ومكابرةٌ للمحسوسات، وتكذيبٌ لربِّ الأرض والسماوات، وقد أجمعَ أهلُ الأديان الناقلون عن رسلِ الرحمن مع ما تواتر عندَ الناس في سائر الأزمان على وقوع الطوفان، وأنَّه عمَّ جميعَ البلاد ولم يُبْقِ اللَّهُ أحدًا من كفرة العباد، استجابةً لدعوة نبيِّه المؤيد المعصوم، وتنفيذًا لما سبق في القدر المحتوم.
(١) "كثيب": تل من رمل.
(٢) "اغمز": انخسْ.
(٣) "الجوديّ": اسم جبل بالجزيرة، استوت عليه سفينة نوح.
مختارات