ذِكْر قصة نوح عليه السلام (٥)
﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٢ - ٤٣].
وهذا الابن هو يام، أخو سام وحام ويافث.
وقيل: اسمه كنعان.
وكان كافرًا عَمِلَ عملًا غير صالح، فخالفَ أباه في دينه ومذهبهِ فهلكَ مع من هَلَك.
هذا وقد نجا مع أبيه الأجانبُ في النسب لما كانوا موافقينَ في الدِّين والمذهب.
﴿وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: ٤٤].
أي: لما فرغَ من أهل الأرض ولم يبق منها أحدٌ ممن عبد غيرَ اللَّه، أمرَ اللَّه الأرضَ أن تبلعَ ماءَها، وأمرَ السَّماءَ أنْ تُقْلعَ، أي: تُمْسكَ عن المطر ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ أي: نقصَ عمَّا كان ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي: وقعَ بهم الذي كان قد سبقَ في عِلْمه وقَدره، من إحلاله بهم ما حلَّ بهم ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي: نُودي عليهم بلِسان القُدْرة: بعدًا لهمل من الرحمة والمغفرة، كما قال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: ٦٤] وقال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [يونس: ٧٣].
وقال تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٧] وقال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠)إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ١١٩ - ١٢٢] وقال تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٤ - ١٥] وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٦] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٥ - ١٧] وقال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٥ - ٢٧] وقد استجابَ اللَّه تعالى -وله الحمد والمنَّة- دعوته، فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما: من طريق يعقوب بن محمد الزُّهري، عن فائد مولى عُبيد اللَّه بن أبي رافع: أن إبراهيمَ بن عبد الرحمن بن أبي رَبيعة أخبره، أن عائشةَ أم المؤمنين أخبرتْه، أن رسول اللَّه ﷺ قال: "فلو رحمَ اللَّه من قومِ نوحٍ أحدًا لرحمَ أمَّ الصبيِّ".
قال رسولُ اللَّه ﷺ: "مكث نوحٌ ﵇ في قومه ألفَ سنةٍ -يعني إلا خمسينَ عامًا- وغرسَ مئة سنةٍ الشجرَ، فَعظُمَتْ، وذهبتْ كلَّ مذهبٍ، ثم قطعَها، ثم جعلَها سفينةً، ويمرُّون عليه، ويَسْخرون منه، ويقولون: تعملُ سفينةً في البرِّ كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون.
فلما فرغَ، ونبعَ الماءُ وصارَ في السِّككِ، خشيتْ أمُّ الصَبيِّ عليه، وكانتْ تُحبُّه حُبًّا شديدًا، خرجت به إلىِ الجبل حتَّى بلغت ثلثَه، فلما بلغَها الماءُ خرجتْ به حتَّى استوتْ على الجَبَلِ، فلمَّا بلغَ الماءُ رقبتَها رَفَعتْه بيديْها، فغرقا، فلو رحمَ اللَّه منهم أحدًا لرحمَ أُمَّ الصَّبيِّ".
وهذا حديث غريب.
وقد رُوي عن كعب الأحبار، ومُجاهد، وغير واحد، شبيهٌ لهذه القصة، وأحرى بهذا الحديث أن يكونَ موقوفًا مُتلقَّى عن مثل كعب الأحبار، واللَّه أعلم.
والمقصودُ أنَّ اللَّه لم يُبقِ من الكافرين ديّارًا فكيف يزعمُ بعضُ المُفسِّرين أنَّ عَوجَ بن عَنَق -ويقال ابن عَناق- كان موجودًا من قبل نوح إلى زمان موسى؟ ويقولون: كان كافرًا مُتمرِّدًا جبَّارًا عنيدًا، ويقولون: كان لغير رشدة، بل ولدتُه أُمُّه عَنَقَ بنت آدم، من زنى، وإنه كان يأخذُ من طوله السَّمَك من قَرار البحار، ويشويه في عَيْن الشمس، وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القُصَيْعة التي لكَ؟ ويستهزئُ به، ويذكرون أنه كان طولُه ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مئة وثلاثة وثلاثين ذراعًا وثلثًا، إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مُسَطَّرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيَّام النَّاس، لما تعرَّضنا لحكايتها؛ لسُقاطَتِها (١) ورَكاكَتها، ثم إنَّها مخالفةٌ للمعقول والمنقول.
أما المعقولُ: فكيف يسوغُ فيه أن يُهْلكَ اللَّه ولدَ نوحٍ لكفره وأبوه نبيُّ الأمة وزعيمُ أهل الإيمان، ولا يُهْلكَ عَوجَ بن عَنق -ويقال عناق- وهو أظلمُ وأطغى على ما ذكروا؟! وكيف لا يرحم اللَّه منهم أحدًا ولا أُمَّ الصَّبيِّ ولا الصَّبيَّ، ويترك هذا الدَّعيَّ الجبَّار العنيدَ الفاجرَ الثديدَ الكافرَ الشيطانَ المريدَ، على ما ذكروا؟!
وأما المنقولُ: فقد قال اللَّه تعالى: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٦] ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦] ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالفٌ لما ثبت في الصحيحين عن رسول اللَّه ﷺ أنه قال: "إن اللَّه خلقَ آدمَ وطولُه ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلقُ ينقصُ حتى الآن".
فهذا نصُّ الصَّادقِ المصدوقِ المعصومِ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى؛ أنَّه لم يزلِ الخلقُ ينقصُ حتَّى الآن، أي: لم يزل النَّاس في نقصان طُولهم من آدمَ إلى يوم إخباره بذلك، وهلُمَّ جرًا إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضي أنه لم يُوجد من ذريَّة آدم من كان أطول منه، فكيف يُتركُ هذا ويُذْهلُ عنه، ويُصار إلى أقوال الكَذَبة الكَفَرةِ من أهل الكتاب، الذين بدَّلوا كُتُب اللَّه المنزلة وحرَّفوها وأوَّلوها، ووضعُوها على غير مواضِعها، فما ظنُك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه، [وهم الخونة والكذَبة -عليهم لعائنُ اللَّه المتتابعة إلى يوم القيامة-] وما أظنُّ أن هذا الخبر عن عَوج بن عَناق إلا اختلاقًا من بعض زنادقتهم وفُجَّارهم الذين كانوا أعداءَ الأنبياء، واللَّه أعلم.
ثم ذكرَ اللَّه تعالى مناشدةَ نوح ربَّه في ولده، وسؤاله له عن غرقِه، على وجه الاستعلام والاستكشاف، ووجه السؤال: أنَّك وعدَتني بجاة أهلي معي، وهو منهمِ وقد غرقَ، فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي: الذين وعدتُ بنجاتهم، أي: أما قُلنا لكَ ﴿وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾ [المؤمنون: ٢٧] فكانَ هذا ممن سبقَ عليه القولُ منهم بأنه سيغرق بكفره، ولهذا ساقتْه الأقدارُ إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغَرِقَ مع حزبه أهل الكفر والطغيان، ثم قال تعالى: ﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: ٤٨] هذا أمرٌ لنوحٍ لمَّا نضبَ الماءُ عن وجهِ الأرض، وأمكنَ السَّعي فيها والاستقرار عليها، أنْ يهبطَ من السفينة التي كانت قد استقرَّتْ بعد سيرها العظيم على ظهر جَبَلِ الجوديِّ.
وهو جبلٌ بأرضِ الجزيرة مشهورٌ، وقد قدَّمنا ذكرَه عند خَلْقِ الجبال ﴿اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا﴾ أي: اهبطْ سالمًا مباركًا عليك وعلى أمم ممن سيولد بعد أيٍّ من أولادك، فإن اللَّه لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلًا ولا عَقِبًا سوى نوح، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧] فكلُّ منْ على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينتسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث.
قال الإمام [أحمد]: حدَّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة؛ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: "سَامٌ أبو العرب، وحَامٌ أبو الحبش، ويافثُ أبو الروم".
ورواه الترمذيُّ: عن بشر بن مُعاذ العَقَديّ، عن يزيدَ بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتادة، عن الحسن، عن سَمُرة مرفوعًا، نحوه.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حُصَيْن، عن النبي ﷺ، مثله.
قال: والمرادُ بالروم هنا الرومُ الأوَلُ، وهم: اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يُونان بن يافث بن نوح.
ثم رَوَى من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولدَ نوحٌ ثلاثةً: سام، ويافث، وحام.
وولدَ كلُّ واحدٍ من هذه الثلاثة ثلاثةً، فولدَ سامُ العربَ، وفارسَ والرُّومَ.
وولدَ يافثُ التُّركَ والسَّقالبةَ ويأجوجَ ومأجوجَ.
وولدَ حامُ القِبْطَ والسُّودان والبَرْبر.
قلت: وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدَّثنا إبراهيم بن هانئ وأحمدُ بن الحُسين بن عبَّاد -أبو العبَّاس- قالا: حدَّثنا محمَّد بن يزيد بن سنان الرَّهاوي، حدَّثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسيِّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "وُلدَ لنوحٍ: سام، وحام، ويافث.
فوُلد لسامٍ: العربُ وفارسُ، والرومُ، والخيرُ فيهم.
ووُلد ليافث: يأجوجُ ومأجوجُ، والتُّركُ والسَّقَالبة، ولا خير فيهم.
وَوُلد لحام: القِبْطُ، والبَرْبرُ والسُّودان" ثم قال: لا نعلم يُروى مرفوعًا إلا من هذا الوجه، تفرَّد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدَّث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه.
ورواه غيرُه عن يحيى بن سعيد مرسلًا، ولم يُسنده وإنما جعلَه من قول سعيد.
قلت: وهذا الذي ذكرَه أبو عمر هو المحفوظ عن سعيد (٢) قوله، وهكذا رُوي عن وهب بن منبه مثله، واللَّه أعلم.
ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيفٌ بمرَّة، لا يُعتمد عليه.
وقد قيل: إنَّ نُوحًا لم يُولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطُّوفان، وإنما وُلد له قبل السفينة كنعان الذي غَرِقَ، وعابر مات قبل الطُّوفان.
والصحيحُ أن الأولادَ الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم، وهو نصُّ التوراة.
وقد ذُكرَ أنَّ حامًا واقعَ امرأتَه في السفينة، فدعا عليه نوحٌ أنْ تُشوَّهَ خِلْقَةُ نطفتِه، فوُلد له ولدٌ أسود، وهو كنعان بن حام جدُّ السودان.
وقيل: بل رأى أباه نائمًا وقد بدتْ عورتُه فلم يسترْها، وسترَها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تُغَيَّر نُطْفته، وأن يكونَ أولادُه عبيدًا لإخوته.
(١) كذا في ب والمطبوع.
والسُّقاطة: ما سقط من الشيء.
وفي أ وسطالتها: والساطل من الغبار المرتفع، والسَّاطلُ: المُلْبسُ.
(٢) أي من قول سعيد بن المسيب.
مختارات