فقه الصبر (٧)
.
ومراتب الصبر أربع:
الأولى: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله، فيكون العبد في صبره مبتغياً وجه الله، صابراً به، متبرئاً من حوله وقوته، فهذه أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها، وفي ذروتها الأنبياء.
الثانية: أن لا يكون فيه صبر لله، ولا صبر بالله، فهذا في أخس المراتب، وهو أردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان، وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، فهو مستعين ومتوكل على حول الله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله فيما هو مراد الله الديني منه.
فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له، وإنما كانت عاقبته شر العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار، وأرباب الأحوال الشيطانية، فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله.
وهم من جنس الملوك والرؤساء الظلمة، فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر، والمؤمن والكافر.
الرابعة: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به، والتوكل عليه، والثقة به، والاعتماد عليه.
فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه، ونصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله.
فهذا حال المؤمن الضعيف، وصابر بالله لا لله حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله حال المؤمن القوي، وهو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وكل عبد لا يخلو قط من أن يكون في نعمة أو بلية.
فإن كان في نعمة ففرضها الشكر والصبر، أما الشكر فقيدها وثباتها، والكفيل بمزيدها.
وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها، فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلي.
وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً.
أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا.
والصبر من أجلّ مقامات الدين، وأخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، وذلك لا يقوم إلا على ساق الصبر.
والصبر على البلاء يكون بحبس النفس على المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته، ويشهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به، وحسن اختياره له، وبره به، فيحصل له لذة بذلك.
وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليدخل في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله.
فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هي موافقة المحبوب في محابه، فيحب كل ما يحبه محبوبه، وإن كرهه من حيث الطبع البشري، كما يحب الدواء الكريه لما فيه من الشفاء.
وتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه فيه عن مراده هو منه، فإذا شهد مراد محبوبه أحبه، وإن كان كريهاً إليه.
وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى، وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة والسرور.
والصبر نوعان:
أحدهما: صبر على المقدور كالمصائب.
الثاني: صبر على المشروع وهو نوعان:
صبر على الأوامر.
.
وصبر عن النواهي.
فذاك صبر على الإرادة والفعل.
وهذا صبر عن الإرادة والفعل.
فأما النوع الأول فمشترك بين المؤمن والكافر، لا يثاب عليه بمجرده إن لم يقترن به إيمان واحتساب كما قال - صلى الله عليه وسلم - لابنته: «مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» متفق عليه (١).
ومن قل يقينه قل صبره.
ومن قل صبره خف واستخف، ولعبت به الأهواء كما تلعب الريح بكل خفيف.
وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه.
فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ابتلي بالنار، ومفارقة الأهل والأولاد والدار، فصبر ابتغاء وجه ربه، فأنجاه الله من النار، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
ومن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة فليوطن نفسه على الصبر على البلاء، والصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ومن أراد أن يقتدي في دينه فليتبع الأنبياء؛ لأنهم بالله أعرف وله أطوع.
وقد أمرنا الله باتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمر رسوله باتباع ملة إبراهيم، وملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - البذل والتضحية بكل شيء من أجل التوحيد والإيمان وإعلاء كلمة الله.
فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من أجل الدين بذل نفسه حين سلمها للنيران.
وبذل ماله حين سلمه للضيفان.
وضحى بولده حين بذله للقربان.
وأسكن وترك بواد غير ذي زرع طاعة للرحمن.
فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فاجتهد في متابعة ولده الصبي.
كيف انقاد لحكم ربه، مع صغر سنه، فمد عنقه للذبح امتثالاً لأمر ربه.
وأنه لابتلاء عظيم، وبلاء مبين للوالد والولد، يحتاج إلى صبر كالجبال، إنه ابتلاء يهز القلوب، ويرجف له الفؤاد، ولكنه أمر الله، ولا بدَّ من امتثاله.
فمن يطيق أن يذبح ابنه؟ ومن يتحمل مباشرة الذبح؟ ولكن الله يريد صفاء إبراهيم، وهو خليل الرحمن، وقد تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، فأمره الله أن يذبح من زاحم حبه حب ربه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)} [الصافات: ١٠٢].
فلما قدَّم إبراهيم طاعة ربه وعزمه على ذبح إسماعيل، وزال ما في القلب من المزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه فلهذا قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)} [الصافات: ١٠٣ - ١١١].
وإن كنت دون الرجل، فاتبع الموسوم بنقصان العقل والدين، وهي أم الذبيح إسماعيل، هاجر المملوكة امرأة إبراهيم.
وانظر كيف أطاعت ربها وصبرت، فتحملت المحنة في ولادتها، ثم صبرت حين تركها الخليل مع ولدها في مكة، حيث لا ماء ولا زاد ولا أنيس، ثم توجهت إلى ربها ليغيثها، فلما تربت على اليقين على الله، جعل الله خطواتها عبادة إلى يوم القيامة، وهي السعي بين الصفا والمروة.
كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)} [إبراهيم: ٣٧].
ومن صفات الله تبارك وتعالى الصبر، وأطلق عليه الصبر أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لَيْسَ أحَدٌ، أوْ لَيْسَ شَيْءٌ أصْبَرَ عَلَى أذًىً سَمِعَهُ مِنَ الله، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه (٢).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٢٨٤)، ومسلم برقم (٩٢٣)، واللفظ له.
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٠٩٩) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٨٠٤).
مختارات