فقه الصبر (٨)
وصبر الله تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه منها:
أن صبره سبحانه عن قدرة تامة، ومنها أنه لا يخاف الفوت، ومنها أنه لا يلحق بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما.
والفرق بين الصبر والحلم، أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، والحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر.
والمخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته.
وحلمه وقدرته وعلمه من لوازم ذاته سبحانه، وأما صبره عزَّ وجلَّ فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم.
فلا يحمله ذلك على تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده، ويمهله ويستصلحه، ويرفق به، ويحلم عليه.
حتى إذا لم يبق فيه موضع للصنيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق والحلم، ولا ينيب إلى ربه، ولا يدخل عليه لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له، ودعائه إليه من كل باب.
وهذا كله من موجبات صفة حلمه.
ولو أن الناس أعطوا هذا الاسم حقه، لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما أنه أحق باسم العليم والرحيم وسائر الأسماء من جميع الخلق.
والتفاوت الذي بين صبره سبحانه وبين صبر الخلق كالتفاوت الذي بين حياتهم وحياته، وعلمه وعلمهم، وكذا سائر صفاته وصبره سبحانه من أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومَنْ إحسانه فوق كل إحسان، بالكفر والمعاصي، وغاية القبح، وأعظم الفجور، وأفحش الفواحش، ونسبته إلى مالا يليق به.
والقدح في كماله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله، مقابلتهم بالسب والشتم والأذى.
وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق إلى صبره سبحانه.
وماذا صدر عن العباد من الجهل والسفه؟
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥)} [مريم: ٨٨ - ٩٥].
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)} [آل عمران: ١٨١].
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)} [المائدة: ٧٢ - ٧٤].
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤)} [الجاثية: ٢٤].
فبحلمه سبحانه صبر عن معاجلة أعدائه بالعقوبة، وكذلك خرور الجبال، وانشقاق الأرض، وتفطير السماء، يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه وما يأتي به الكفار والمشركون والفجار في مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضي البطش والهلاك، ولكن الله غفور حليم يمهلهم لعلهم يرجعون.
وهو سبحانه الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به.
فإذا أغضبته معاصي الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته وعباده المؤمنين، وطاعتهم له، وحمدهم له، فيعيذ رضاه من غضبه.
وكما جعل سبحانه في الأرض من يكفر به، ويجحد توحيده، ويكذب رسله، كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك، ومصدق بما كذبوا به، وبهذا تماسك العالم العلوي والعالم السفلي: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩)} [الأنعام: ٨٩].
والله تبارك وتعالى ذو العزة والجبروت، وذو الجلال والإكرام، وذو الملك والكبرياء والعظمة خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بما يصلحهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عما يضرهم ويشقيهم في الدنيا والآخرة، وقدر عليهم أقداره وأحكامه، وهم لا يستطيعون القيام بما أمرهم، والكف عما نهاهم، وتحمل ما قدر عليهم إلا بالصبر.
وما أمر الله عزَّ وجلَّ بأمر إلا أعان عليه، ونصب له أسباباً تمده وتعين عليه.
ولما كان الصبر مأموراً به، جعل سبحانه له أسباباً تعين عليه، وتوصل إليه، كما أنه ما قدر داءً إلا وقدر له دواءً، وضمن الشفاء باستعماله.
والصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن، وهو يتركب من مفردين:
العلم.
والعمل.
فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان.
فأما الجزء العلمي: فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضرر والنقص والهلاك.
فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة، والهمة العالية، والنخوة والمروءة الإنسانية، وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء، فمتى فعل ذلك حصل له الصبر، وهانت عليه مشاقه، وحلت مرارته، وانقلب ألمه لذة.
مختارات