فقه الصبر (٦)
والصبر ألوان:
صبر على التكاليف والأوامر من عبادة ودعوة وجهاد.
وصبر على النعماء والبأساء.
وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم.
.
وصبر على البلاء والفتن.
والمؤمنون يصبرون على كل ذلك ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس جزعوا، ولا تجملاً ليقول الناس صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع، وقد وعد الله هؤلاء بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)} [الزمر: ١٠].
والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً، له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
والصبر ثلاثة أنواع:
صبر على طاعة الله.
وصبر عن معصية الله.
وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فالأولان صبر على ما يتعلق بكسب الإنسان، والثالث صبر على مالا كسب للعبد فيه، فصبر يوسف - صلى الله عليه وسلم - عن مطاوعة امرأة العزيز على ما تريد منه أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه.
فهذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر.
وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس وشهواتها، لا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة.
فإنه كان شاباً عزباً غريباً مملوكاً، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، ومع هذه الدواعي صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)} [يوسف: ٢٤].
والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإنّ فعل الطاعة أحب إلى الله من ترك المعصية، وعدم الطاعة أبغض إليه وأكره من وجود المعصية.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأول: الاستعانة بالله ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: ١٢٧].
والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، أو طلب حمد الخلق ونحو ذلك، فإن الصبر عمل، والعمل لا بدَّ أن يكون خالصاً لله.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها حيث نزلت، قد جعل نفسه وقفاً على محاب ربه وأوامره.
وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين، فالصبر من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد وهو الثبات مع الله، وتلاقي بلائه بالرحب والسعة، والثبات على أحكام الكتاب والسنة حتى يلقى ربه.
والصبر أكبر عون للعباد على جميع الأمور كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)} [البقرة: ١٥٣].
والذي يعين على الصبر أمور أهمها:
الأول: معرفة العبد ما في الطاعات من زيادة الإيمان وصلاح القلوب.
الثاني: معرفة العبد ما في المحرمات والمعاصي من الضرر والرذائل، وما توجبه من العقوبات في الدنيا والآخرة.
الثالث: معرفة العبد ما في أقدار الله من البركة والحكمة والرحمة، وما لمن قام بالصبر عليها من الأجور كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)} [الزمر: ١٠].
الرابع: معرفة العبد أن محبة الله معه كلما اتقى وصبر كما قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)} [الأنفال: ٤٦].
ومن كان الله معه فكل شيء معه، فكيف لا يجاهد المسلم نفسه على الصبر وهذه أجوره وبركاته ومنافعه؟
فبالصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات، وأداء حقوق الله، وأداء حقوق عباده، وترك ما تنهاه نفسه من المحرمات، وبذلك يهون عليه الصبر عن جميع الشهوات، وجميع الشدائد في الأقدار والأوامر.
والصبر على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية بمطالعة الوعيد، إبقاء على الإيمان، وحذراً من الحرام، وأحسن منها الصبر عن المعصية حياءً.
فالإبقاء على الإيمان يبعث على ترك المعصية؛ لأنها لا بدَّ أن تنقصه أو تذهب بهجته، أو تطفئ نوره، أو تضعف قوته.
وأما الحذر من الحرام فهو الصبر عن كثير من المباح حذراً من أن يسوقه إلى الحرام والشبهات.
والحياء يبعث عليه قوة المعرفة بالله، ومشاهدة معاني الأسماء والصفات.
وأحسن من ذلك أن يكون الباعث عليه وازع الحب، فيترك معصيته محبة له، وصاحب الحياء أحسن حالاً من أهل الخوف؛ لأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته، وحضور القلب معه، ولأن فيه من تعظيم الله وإجلاله سبحانه ما ليس في وازع الخوف.
فَمَنْ وازعه الخوف قلبه حاضر مع العقوبة، ومن وازعه الحياء قلبه حاضر مع الله، والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها، والمستحي مراع جانب ربه، وملاحظة عظمته، وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان.
الدرجة الثانية: الصبر على طاعة الله، بالمحافظة عليها دوماً، ورعايتها إخلاصاً، وتحسينها علماً وعملاً.
وفعل الطاعة أكبر من ترك المعصية، فيكون الصبر عليها آكد، وفوق الصبر عن ترك المعصية، فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة، والمنهي عنه لما كان يُضعف المأمور به ويُنقصه نهي عنه؛ حماية وصيانة لجانب الأمر.
والصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء:
دوام الطاعة.
والإخلاص فيه.
ووقوعها على مقتضى العلم.
والطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة.
فالعبد إن لم يحافظ عليها دوماً عطلها، وإن حافظ عليها دوماً عرض لها آفتان:
الأولى: ترك الإخلاص، وحفظها من هذه الآفة برعاية الإخلاص.
والثانية: أن لا تكون مطابقة للعلم، فحفظها من هذه الآفة بتجريد المتابعة.
الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، وتهوين البلية بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم، فيعد العبد نعم الله عليه، وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر.
وبذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج يتعلق بالمستقبل.
والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على أقداره والصبر لله أكمل من الصبر بالله، والصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره.
فصبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومة قومهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبباً عن فعله.
وكذلك صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف عليهما الصلاة والسلام.
مختارات