" العلم بحقيقة الوقت "
" العلم بحقيقة الوقت "
ولا يمكن للإنسان أن يدرك أنَّ الوقتَ من أنفس النِّعم وأجلِّها إلا إذا عرف قيمته في حياته، وعلم مردوده وثمرته في الدنيا والآخرة؛ فإذا أدرك المسلم ذلك حقَّ الإدراك فحينئذ تتحمس نفسه وتتقوى عزيمته وتعلو همته لاستثمار هذه النعمة الجليلة وصرفها في الخير وصالح الأعمال.
حقيقة الوقت: فالوقت بسنواته وشهوره وأسابيعه وساعاته هو عمر الإنسان ومجال حياته، ومحطات عيشه ولحظاته، ومميز سيره وتقلباته، وكلما مرت لحظة إلا ومر معها سير العمر نحو النهاية المحتومة.
وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيدًا عن الدنيا قريبًا إلى القبر
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة عيشه الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب؛ فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته (الجواب الكافي ).
فمن أدرك حقيقة الوقت على هذا المنوال، وسارع إلى استثمار لحظاته في صالح الأعمال، فقد سلك سبيل النجاح في الدنيا والنجاة في المآل؛ فكانت أوقاته عبادات وتفكُّر، ولحظاته قربات وتذكُّر؛ فلا تراه إلا قائمًا بالفرائض والواجبات، حريصًا على قضاء فراغه في الطاعات، ملازمًا للجد والاجتهاد، مواظبًا على المجاهدة والجهاد، توَّاقة نفسه للثواب العظيم عند الله تعالى يوم المعاد.
وما ضَيَّعَ الإنسانُ لحظات عمره في السفاسف واللهو إلا لجهله بحقيقة الوقت وماهيته وثمرته، وقد يكون جهلُه ناتجًا عن بُعْده عن العلم والمعرفة، وقد يكون ناتجًا عن ضعف إيمانه وقلة يقينه وإقبال المذموم على الدنيا.
وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتَه لاغتنام الأوقات قبل حصول الممات، فقال: «اغْتَنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
فهذا الحديث يوضح أنَّ الوقتَ غنيمةٌ حاضرةٌ جاهزةٌ يمتلكها كلُّ إنسان؛ بيد أنَّ اغتنامَها والاستفادةَ منها يحتاج إلى مسارعة ومجاهَدَة وحكمة؛ فالمسارعة تحمل على استغلال الفراغ قبل الانشغال.
والمجاهدة تُحْمل على تكلف الأعمال وتحمُّل مشاقِّها و عوائقها في أوقات العمر.
والحكمة تحمل على جعل العمل المناسب في الوقت المناسب.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً. أي: فارغًا لاهيًا لا في عمل دنيا ولا في عمل الآخرة».
وكانت حفصة بنت سيرين تنصح الشباب وتقول: يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم واغتنموا وقتكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
أخي الكريم: تذكَّر أن حياتَك لحظات، وأنَّ كلَّ لحظة انقضت انقضى معها عمرُك؛ فإن كنتَ صرفتَها في خير فهو لك، وإن كنت صرفتَها في شر فعليك.
واعلم أن الفراغَ في حقيقته شغل يشمل الخير والشر؛ فما من لحظة تمر من حياتك إلا ولك فيها شغل، شعرت بذلك أم لم تشعر، فاجتهد أن تجعل من وقتك صندوق أعمال صالحة تلقى بها الله يومَ العرض عليه؛ فإنك مسؤول عن عمرك ووقتك وموقفة قدمك للحساب على كل لحظة مرت عليك في الدنيا؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسْأَلَ عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه» (رَوى ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ).
دقَّاتُ قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
مختارات