موقفه صلى الله عليه وسلم من موت أحد كبار أعداء الإسلام
يدهشني كثيرًا موقفه صلى الله عليه وسلم من موت أحد كبار أعداء الإسلام، رأس المنافقين؛ عبد الله بن أبي ابن سلول!
فإن في إعراضه عنه مع اتساع صحيفته بسواد أعماله=دليلًا حيًّا على أنه أبعد الناس عن إغراءات السيف وطموحات المستكبرين في الأرض!
هذا رجلٌ رفَعَ الوحيُ عنه حُجُبَ السَّتْرِ، فكان سِرُّه وما يُخافت به في مجالسه من السب والاستهزاء والمكر والغدر=كل ذلك كان علانيةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر الوحي!
يعلم أنه قال: ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ..
وأنه قال: لقد غبَّر علينا ابن أبي كبشةَ؛ شأن العرب عند تنقُّص رجلٍ بنسبته إلى غير مشهور من أهله!
وعلم أنه خاض في عرض زوجه الصِّدِّيقَة بنت الصديق؛ أحب الناس إليه!
وعلم أنه كان يميل إلى يهود ويحالفهم ضِدَّه!
فصبر ما لا يصبره أحد، حتى ابن عبد الله بن أبي!
فعن أبي هريرة، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي ابن سلول وهو في ظل أَجَمَةٍ، فقال: قد غَبَّرَ علينا ابن أبي كبشة!
فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: والذي أكرمك، والذي أنزل عليك الكتابَ، لئن شئتَ لآتِيَنَّكَ برأسِه!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكن بِرَّ أباكَ، وأَحْسِنْ صُحْبَتَه»!
فصبر ما لم يصبر ابنُ عبد الله بن أبيٍّ الذي نبت من دَمِه، ونبع منه!
صَبَرَ صَبْرَ النبوةِ الذي لا يُلحق، وتمَّمَ جمال صبره بالإحسان الذي لا يُدرك!
ويوم أنْ كلَّمه بعض الصحابة في قتل هذا الداء المجسَّد، في مثل ابن أبي، أو نَبْعِ الخوارج الذي قال له: اعدِل؛ فإنك لم تعدِلْ!
فما كان يجيب ذلك إلا إجابتَه التي بقيت على ناصية التاريخ عنوانًا على جلالة قدره:
" لا..لا يتحدث الناسُ أنَّ مُحَمَّدًا يقتُلُ أصحابَه " !
لقد كانت العرب تقتل من أجل نظرة عابرة، أو ناقةٍ شاردة، وتثور الحروب بينهم سنين عددًا في الشأن الذي يكون أهون وأقل من هذا كله! فكيف بالعِرْض؟!
نعم! صَبَر صَبْرَ النبوة الذي لا يُلحق، وتمَّم جمال صبره بالإحسان الذي لا يُدرك!
وقد مات الآن عدوه الذي ما تباطأ يومًا عن قالة السوء ونفخ النار في نفوس المسلمين، فما كان منه سوى الإحسان مضاعفًا!
لقد كان سكوته وحدَه عن موته آية إحسان كافيةً في البيان عن جميل خلقه!
وكان يسَعُه أن يجعل أصحابه في جنازته مُعَزِّين مُصَلِّين، وكان هذا فوق الإحسان!
بل أرسل بُرْدَه الخاصَّ ليكون كفنَ عدوه اللدود! وتقدم الصفوف ليُصَلِّي عليه!
هذا شيء غريب جدًّا..لكنه من محمد رسول الله عظيم جدًّا جدًّا!
هذا صاحبه الفاروق يحكي المشهد الباذخ!
لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول، جاء ابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أعطني قميصَك أُكَفِّنْه فيه، وصَلِّ عليه، واستَغْفِر له " !
فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قميصه، وقال: " إذا فرغتم فآذِنُونِي " فآذَنَه، فلما أراد أن يصلي عليه وثَبْتُ إليه، حتى قمتُ في صدره، فقلتُ: يا رسول الله! أتصلي على عدو الله عبد الله بن أُبَيٍّ، وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟! أُعَدِّدُ عليه قوله!
قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم! حتى إذا أكثرتُ عليه قال: " أَخِّر عني يا عمر " !
فقلت: يا رسول الله! أتصلي عليه وهو منافق؟! وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟! فقال: " إنما خَيَّرَني الله، فقال: (استغفر لهم، أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)، فقال: " سأزيده على سبعين " !
بي صمتٌ غارقٌ في البكاء بين يدي هذا الموقف الذي يبس منه الحرف في يدي، فما أحسن الكتابة والبيان، فأي بيانٍ هنا شاحبٌ متهالك لا قيمة له!
يجيب فيعطي الرداء، ولا يُعْرض عن الصلاة عليه وهو من أشد الناس عداءً له، وليس يلتمس كف شره، ولا تأليف قلبه!
ويلتمس من ابنه إعلامه بوقت صلاتهم عليه، فلا يتباطؤ عن ذلك، ويذهب ومن بين يديه أحد أحب الخلق إليه وهو الفاروق رضي الله عنه، فلا يجيبه إلى المنع، فيعدد عليه الفاروق رضي الله عنه قوارص ذلك المجرم، فيتبسم النبي صلى الله عليه وسلم!
لا أستطيع مفارقة هذه المفردة في هذا السياق.. " يتبسم " !
هذه المفردة هنا تكتسب معنى آخر غير الابتسام وهو جمال تلك النفس واشتمالها على رحمةٍ لا تنزعج من العفو، ولا تضيق بالصفح، وتُقْبِلُ عليه بغير تكلُّف، وإنما هي الرحمة في تجليها الأجمل!
ويصلي عليه، وفي صلاة الجنازة ما فيها من مَعَارِج الدعاء والضراعة للميت!
ويُتْبِعُ الصلاةَ استغفارًا ينفي كل شبهة تكلُّفٍ، أو كراهةٍ في هذا الفعل النبوي الجليل!
مختارات