97. كعب بن مالك
كعب بن مالك
"شاعر الرسول ﷺ، وواحد من الأنصار الصادقين الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم قرآنا"
قصة اليوم؛ عنيفة حقا …
عميقة صدقا …
بالغة أقصى ما في القصص من عنف، وعمق، وإثارة.
وقد هممت - أيها القارئ الكريم - أن أرويها لك بنفسي …
فلما شرعت؛ وجدت أن بياني أعجز من أن ينقلها إليك بلفتاتها الدقيقة الرائعة …
وصورها البديعة البارعة …
وعواطفها الجياشة (١) الزاخرة.
فآثرت أن أترك ذلك لصاحب القصة.
.
فهو أعلى مني بيانا، وأقدر تعبيرا عن خلجات (٢) نفسه، وأدق تصويرا لهمسات ضميره …
فاستمع إلى كعب بن مالك الأنصاري؛ شاعر الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو سيروي لك قصته.
* * *
قال كعب:
لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا يوم تبوك.
ولم أكن قط أقوى مني على الغزو ولا أيسر؛ حين تخلفت عن تلك الغزوة.
وقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه إذا أراد غزوة كتم خبرها … وورى (٣) بغيرها؛ إلا هذه الغزوة.
ولعل الذي جعل الرسول ﷺ لا يكتم خبرها هو أن الحر كان شديدا، وأن السفر كان بعيدا …
وأن الثمار قد أينعت، والظلال قد طابت …
* * *
ولقد تجهز رسول الله ﷺ، وتجهز المسلمون معه.
فطفقت أغدو إلى السوق لأتجهز معهم … لكنني كنت أرجع في كل مرة ولم أفعل شيئا؛ فأقول في نفسي:
إني لقادر على أن أتجهز في أي لحظة …
وما زلت أتمادى في ذلك حتى جد جد (٤) المسلمين، وأنا لم أقض من جهازي شيئا.
وفيما أنا كذلك … بادر الرسول ومن معه إلى الرحيل؛ فهممت أن أرتحل في أثرهم، وأن أدركهم - وليتني فعلت - ولكنه لم يقدر لي ذلك.
ثم ما لبثت أن ركبني الهم والبث (٥) لما صنعت، وقد زادني هما أنني كنت إذا خرجت من بيتي وطفت في الناس؛ لا أرى إلا رجلا متهما بنفاق …
أو عاجزا عذره الله لعجزه.
* * *
ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك؛ فقال لأصحابه:
(ما فعل كعب بن مالك)؟!.
فقال رجل من بني سلمة:
إنما حبسه برداه (٦) الزاهيان … ونظره في عطفه (٧).
فقال معاذ بن جبل (٨):
بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.
فسكت النبي، ولم يضف شيئا.
* * *
ثم بلغني أن الرسول توجه قافلا (٩) إلى المدينة؛ فركبني همي … وطفقت أتذكر الكذب، وأقول:
بماذا أعتذر له وأخرج من سخطه (١٠) غدا؟.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلم أجد عندهم شيئا.
ولما قيل لي: إن الرسول ؛ قد أطل قادما …
انزاح عني الباطل …
وعرفت أنني لن أخرج من سخطه بشيء فيه كذب …
فأزمعت (١١) الصدق.
ثم أصبح رسول الله ﷺ في المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد؛ فيركع فيه ركعتين.
* * *
فلما انتهى النبي ﷺ من ركعتيه جلس للناس؛ فجاءه المخلفون (١٢) أمثالي؛ فجعلوا يعتذرون إليه، ويحلفون له …
وكانوا بضعة (١٣) وثمانين رجلا.
فقبل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم (١٤) إلى الله.
فجئته أنا؛ فلما سلمت عليه؛ تبسم تبسم المغضب، ثم قال:
(تعال) …
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.
فقال لي: (ما خلفك يا كعب؟! …
ألم تكن قد ابتعت راحلتك)؟!.
فقلت: إني - والله - يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا
لخرجت من سخطه بعذر أصنعه له (١٥) …
فإني - والله - قد أعطيت حجة وبيانا.
ولكني - والله - لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب لترضى به عني؛ ليوشكن الله أن يسخطك علي …
ولئن حدثتك حديث صدق يغضبك علي؛ فإني لأرجو فيه عفو الله.
والله - يا رسول الله - ما كان لي من عذر فيما صنعت …
وما كنت قط أقوى وأيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال النبي: (أما هذا فقد صدق).
ثم التفت إلي وقال: (قم حتى يقضي الله فيك) …
فقمت، وغادرت المسجد.
* * *
قال كعب:
فما لبث أن تبعني رجال من قومي؛ فقالوا لي:
والله! ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، فما الذي أعجزك عن أن تعتذر إلى الرسول كما اعتذر غيرك من المخلفين …
فوالله! ما زالوا يؤنبونني (١٦)؛ حتى هممت أن أرجع إلى النبي ﷺ فأكذب نفسي … لكنني ما لبثت أن قلت لهم:
هل شاركني فيما صنعته أحد؟.
فقالوا: نعم: رجلان قالا مثل ما قلت؛ فقيل لهما كما قيل لك.
فقلت: من هما؟.
قالوا: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
وكانا رجلين صالحين، وقد شهدا بدرا.
فقلت: إن لي فيهما أسوة، ثم مضيت.
* * *
قال كعب بن مالك:
ثم ما لبث الرسول ﵇ أن نهى عن كلامنا نحن الثلاثة؛ من بين من تخلف عنه …
فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا … حتى تنكرت في نفسي الأرض؛ فما بقيت هي الأرض التي أعرف …
ولبثنا على ذلك خمسين ليلة.
أما صاحباي فاستكانا (١٧) … وقعدا في بيتيهما يبكيان.
وأما أنا، فكنت أشب الثلاثة وأجلدهم؛ فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق … لكن لا يكلمني أحد.
وكنت آتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، ثم أقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟!.
وكنت أحرص على أن أصلي قريبا منه؛ لأسارقه النظر (١٨) …
فكنت إذا أقبلت على صلاتي أقبل علي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
فلما طالت علي جفوة (١٩) الناس؛ اشتد بي الضيق …
فتسورت (٢٠) جدار بستان أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي.
فسلمت عليه … فوالله ما رد علي السلام؛ فقلت:
يا أبا قتادة؛ أنشدك الله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله ﷺ؟.
فسكت، فأعدتها عليه فسكت، فأعدتها، فقال:
الله ورسوله أعلم …
عند ذلك؛ توليت عائدا من حيث أتيت …
* * *
ثم حدث ما لم يكن في الحسبان.
فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ما يكلمني أحد … إذا نبطي (٢١) من أنباط أهل الشام يقول:
من يدلني على كعب بن مالك؟.
فأشار الناس إلي.
فجاءني ودفع إلي كتابا من ملك غسان؛ فإذا فيه:
"أما بعد؛ فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك فالحق بنا نواسك".
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء …
فاتجهت بالرسالة نحو تنور (٢٢) يتقد، فألقيت الرسالة فيه.
* * *
قال كعب:
ولما مضت أربعون ليلة من الخمسين … جاءني رجل من عند النبي وقال:
إن رسول الله ﷺ يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟!.
قال: لا … بل اعتزلها فلا تقربها.
وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك.
فقلت لامرأتي:
الحقي بأهلك وامكثي عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر …
فمضت إلى أهلها.
أما امرأة هلال بن أمية؛ فجاءت إلى رسول الله ﷺ وقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ فان (٢٣) وليس له خادم؛ فهل تكره أن أخدمه؟.
فقال: لا، ولكن لا يقربك.
فقالت: إنه والله يا رسول الله ما يزال يبكي منذ لزم بيته إلى يومه هذا.
قال كعب:
عند ذلك قال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله ﷺ في امرأتك، فقد يأذن لك كما أذن لهلال بن أمية.
فقلت: والله لا أفعل، وما يدريني ما يقول لي الرسول ؟ وأنا امرؤ شاب …
* * *
قال كعب:
فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة.
فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت وضقت بنفسي أشد الضيق …
سمعت صوت صارخ من أعلى جبل سلع (٢٤) ينادي بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك أبشر …
يا كعب بن مالك أبشر …
فما إن لامس الصوت سمعي؛ حتى خررت ساجدا لله …
وعرفت أنه قد جاءني الفرج، وأن رسول الله ﷺ قد أعلن ذلك لأصحابه.
فهب الناس يبشرونني، وكان أسبقهم إلي فارس جاء على فرسه، وذهب إلى صاحبي مبشرون أيضا …
فلما جاءني الذي سمعت صوته؛ نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه … ووالله! ما أملك آنئذ غيرهما.
ثم استعرت ثوبين ولبستهما، وانطلقت إلى الرسول.
فتلقاني المسلمون فوجا فوجا يهنوني بالتوبة ويقولون:
لتهنك توبة الله عليك يا بن مالك؛ حتى دخلت المسجد …
فإذا رسول الله ﷺ جالس وحوله الناس، وقد استنار وجهه كأنه قطعة القمر …
فلما سلمت عليه؛ قال ووجهه يبرق من السرور (٢٥):
(أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك).
قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ﷿؟.
فقال: (لا بل من عند الله).
قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي (٢٦) كله، وأن أجعله صدقة لله ورسوله ﷺ.
فقال الرسول:
(أمسك عليك بعض مالك يا كعب؛ فهو خير لك).
قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وأتصدق بما عداه.
ثم قلت: يا رسول الله …
إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أقول إلا صدقا ما بقيت.
* * *
رضي الله عن كعب بن مالك الأنصاري شاعر رسول الله ﷺ …
فقد نافح عن الإسلام بسنانه وبيانه …
وأنزل الله فيه وفي أصحابه قرآنا ما زال يتلى آناء الليل وأطراف النهار.
وسيظل يتلى؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها (*).
_________
(١) الجياشة: الفياضة الشديدة.
(٢) خلجات نفسه: همومها ومشاعرها.
(٣) وورى بغيرها: أظهر غيرها إخفاء لها.
(٤) جد جد المسلمين: أي جدوا في استعدادهم، وقطعوا أمرهم بالرحيل.
(٥) البث: الحزن العظيم.
(٦) البرد: الثوب.
(٧) نظره في عطفه: إعجابه بنفسه.
(٨) معاذ بن جبل: انظره في الكتاب السابع من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٩) توجه قافلا: توجه راجعا.
(١٠) السخط: الغضب.
(١١) أزمعت: عزمت وقررت.
(١٢) المخلفون: الذين تخلفوا عن مرافقة النبي ﷺ في هذه الغزوة.
(١٣) البضع: من الثلاثة إلى التسعة.
(١٤) سرائرهم: جمع سريرة، وهي عمل السر من خير أو شر.
(١٥) أصنعه له: أختلقه.
(١٦) يؤنبونني: يلومونني.
(١٧) فاستكانا: خضعا واستسلما.
(١٨) لأسارقه النظر: أبادله النظر في استخفاء.
(١٩) الجفوة: الإعراض، وجفا فلان فلانا أعرض عنه وثقل عليه.
(٢٠) تسورت: تسلقت.
(٢١) النبطي: نسبة إلى النبط، وهم: قوم ينزلون بعض بلاد العراق.
(٢٢) التنور: نوع من المواقد يخبز فيه.
(٢٣) شيخ فان: شيخ عجوز.
(٢٤) جبل سلع: جبل بسوق المدينة.
(٢٥) يبرق من السرور: يتألق ويتلألأ سرورا.
(٢٦) أن أنخلع من مالي: أتجرد منه وأتركه.
مختارات