فقه الغنى (٢)
وأما غنى النفس فهو استقامتها على المرغوب، وهو أمر الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله سبحانه، وتعظيماً لأمره، وإيماناً به، واحتساباً لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلباً لتعظيم المخلوقين ومدحهم له، أو هرباً من ذمهم، أو طلباً للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل الفقر إلى المخلوق لا إلى الله.
أما الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه فهي أعلى درجات الغنى، وأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عزَّ وجلَّ إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر سبحانه خلقك ورزقك وعملك، وإحسانه إليك، ونعمه عليك، حيث لم تكن شيئاً البتة.
وذكرك جلَّ جلاله بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، فجعلك أهلاً لما لم تكن له أهلاً قطّ، وإنما هو الذي أهَّلَك بسابق ذكره، وهو الذي أيقظك وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام.
ومن الذي وفقك للتوبة وقبلها منك فذقت حلاوتها؟.
ومن الذي وفقك لمحبته وعمر قلبك بمحبته فأنست به بعد الوحشة؟
ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة، ذكرك بها قبل وجودك، وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده.
إذ هو الجواد المحسن، المحسن لذاته لا لمعاوضة، ولا لطلب جزاء منك، ولا لحاجة دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟.
فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك؛ لذكره لك بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبب إليك بنعمته.
هذا كله مع غناه عنك، فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء.
أما الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عزَّ وجلَّ فهي دوام شهود أوليته سبحانه، وهذه أعلى مما قبلها.
فالله عزَّ وجلَّ إذا فتح قلب عبده فشهد أوليته سبحانه، حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عما سواه.
الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويمجده ويعبده، فهو معبود محمود، حي قيوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال.
فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه، فسائر الموجودات كلها سواه سبحانه أفنتها أولية الحق سبحانه، وكل صفة من صفات الرب سبحانه يستغنى العبد بها بقدر حظه من معرفتها، وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتوفيته لعباده، وتعبد بمقتضى هذه الصفات، يعرج قلبه إلى الصمد مناجياً له، مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز الجبار.
فيشعر بأن كلامه وعمله صاعدان إليه، معروضان عليه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك.
ويشهد نزول الأوامر والمراسم الإلهية إلى أقطار العالم كل وقت بأنواع التدبير والتصريف:
من الإحياء والإماتة.
والتولية والعزل.
والخفض والرفع.
والعطاء والمنع.
والإكرام والإهانة.
والغنى والفقر.
والصحة والمرض.
وتقلب الدول.
ومداولة الأيام بين الناس.
إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فهو الذي: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧)} [السجدة: ٥، ٦].
والمسلم إذا أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك إذا شهد العبد مشهد علم الله المحيط، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في أعماق البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط علمه سبحانه بكل شيء في الكون، وعلمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود، من مراقبته لنفسه، وحراسة خواطره وألفاظه، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن جميع حركاته الظاهرة والباطنة، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لربه علانية، بادية لا يخفى على الله منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله سبحانه سماع صوت من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع من سمع في كل زمان ومكان.
ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة كما قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)} [لقمان: ٢٨].
فإذا استشعر ذلك، وتعبد بمقتضى هذا الشعور بذكر ربه والثناء عليه، وتعظيمه وإجلاله، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وجوارحه، استغنى بذلك عما سواه سبحانه.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير، الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه في العالم العلوي والسفلي.
وكذلك إذا شهد مشهد قيومية الرب تعالى، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس، وأنه تعالى القائم بنفسه، المقيم لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره.
وأنه سبحانه بكمال قيوميته لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قادر على كل شيء.
فهذا المشهد العظيم مشهد الربوبية الذي يدركه كل إنسان.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم، وهو شهادة أن (لا إله إلا الله)، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه باطل ومحال.
فلا أحد سواه سبحانه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية التعظيم مع نهاية الذل له إلا هو سبحانه.
وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو عزَّ وجلَّ المستحق للطاعة التامة وحده، والمعبود وحده، وله الخلق والأمر وحده، وله الحكم وحده، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى عنه سبحانه فقر وفاقة، وكل عزٍّ بغيره ذلٌّ وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة.
فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره، فكذلك يستحيل أن يكون لهم إله غيره.
فهو الذي انتهت إليه الرغبات والمخلوقات، وتوجهت نحوه الطلبات والسؤالات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فهو الغني الصمد بذاته، الذي حاجة كل أحد إليه، ولا حاجة به إلى أحد.
مختارات