(( الرحمن - الرحيم )) جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه 1
( الرحمن - الرحيم )
جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه
أولاً: المعنى اللغوي:
الرحمة: هي الرقة والتَّعَطُّف، والاسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و( رحمن ) أشد مبالغة من ( رحيم ) ؛ لأن بناء ( فعلان ) أشد مبالغة من ( فعيل ) ونظيرهما نديم وندمان. وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا([1]).
ثانيًا ورود الاسمين في القرآن الكريم:
ذُكر ( الرحمن ) في القرآن سبعًا وخمسين مرة ؛ منها قوله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة: 163 ]، وقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه: 5 ]، وقوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان: 26 ].
وأما اسمه ( الرحيم )، فقد ذُكر أكثر من مائة مرة ؛ منها: قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة: 54 ]، وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة: 143 ]، وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وهو كثير في القرآن، انظر سورة ( البقرة ) (173، 182، 189).
معنى الاسمين في حق اللَّه تعالى:
الاسمان مشتقان من الرحمة، و( الرحمن ) أشد مبالغة من ( الرحيم )، ولكن ما الفرق بينهما ؟ هناك ثلاثة أقوال في الفرق بين هذين الاسمين الكريمين:
الأول: أن اسم ( الرحمن ): هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة. و( الرحيم ): هو ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان: 59 ]، وقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه: 5 ]، فذكر الاستواء باسمه ( الرحمن ) ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب: 43 ]، فخصَّ المؤمنين باسمه ( الرحيم )([2]).
ولكن قد يُردُّ على هذا القول بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة: 143 ].
القول الثاني: هو أن ( الرحمن ) دال على صفة ذاتية، و( الرحيم ) دال على صفة فعلية.
قال ابن القيم رحمه اللَّه: إن ( الرحمن ) دالٌ على الصفةِ القائمة به سبحانه، و( الرحيم ) دال على تعلقها بالمرحوم ( أي بمن يرحمهم اللَّه )، فكان الأول للوصف والثاني للفعل.
فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته.
وإذا أردت فهم هذا فتأمَّل قوله: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب: 43 ]، وقوله تبارك وتعالى: { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة: 117 ]، ولم يجئ قط ( رحمن بهم ) فعُلِمَ أن ( رحمن ) هو الموصوف بالرحمة و( رحيم ) هو الراحم برحمته([3]).
القول الثالث: أن ( الرحمن ) خاص الاسم عام المعنى، و( الرحيم ) عام الاسم خاص المعنى.
إذ أن ( الرحمن ) من الأسماء التي نُهِيَ عن التسمية بها لغير الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء: 11 ]، فعادل به الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره، وهو ( اللَّه )([4]).
ولذلك قال ابن القيم رحمه اللَّه عن اسم ( الرحمن ): ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حَسُنَ مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك. ولم يجيء قط تابعًا لغيره بل متبوعًا وهذا بخلاف العليم، والقدير، والسميع والبصير، ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة، فتأمل هذه النكتة البديعة([5]).
وعن الحسن أنه قال: ( الرحمن ) اسم لا يستطيع الناسُ أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى، ولذا لا يجوز أن يُصْرَف للخلق([6]).
وأما ( الرحيم ) فإنه تعالى وصف به نبيَّه عليه الصلاة والسلام، حيث قال: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة: 128 ]، فيُقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن.
قال ابن كثير: والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يُسمى به غيره، ومنها ما لا يُسمى به غيره، كاسم ( اللَّه )، و( الرحمن )، و( الخالق )، و( الرزاق )، ونحو ذلك، فلهذا بدأ باسم اللَّه ووصفه بالرحمن ؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص([7]). اهـ.
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
أولاً: التعرُّف على اللَّه برحمته والإيمان بها.
وسنحاول فيما يلي التعرض إلى جانبٍ من رحمة اللَّه عزَّ وجلَّ، عسى أن ترق القلوبُ إلى خالقها وتشتاق النفوس إلى بارئها.
1- ربكم ذو رحمة واسعة:
قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف: 156 ]، وقال تعالى إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر: 7 ].
2- رحمة اللَّه تغلب غضبه:
قال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام: 54 ]. قال ابن كثير في هذه الآية: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحسانًا وامتنانًا([8]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن اللَّه لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي ). وفي رواية: ( لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه هو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش: إن رحمتي تَغْلِبُ غضبي )([9]).
3- إن للَّه مائة رحمة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها ). وفي رواية: ( حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وأخَّر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحمُ بها عباده يوم القيامة ). وفي رواية: ( إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ). وفي رواية: ( كل رحمةٍ طباق ما بين السماء والأرض، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة )([10]).
هذه رحمة اللَّه المخلوقة، فكيف برحمة اللَّه التي هي من صفاته وليست مخلوقة ولا تنفد أبدًا وليس لها حدّ، ولا نهاية. قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف: 156 ]. ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد )([11]).
4- إن اللَّه تبارك وتعالى بيده الرحمة وحده:
ومن رحمته: أن أحدًا من خلقه لا يستطيع أن يحجب رحمته أو منعها عن أحبابه، قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر: 2 ].
فرحمة اللَّه لا تعزُّ على طالب في أي زمان أو مكان: وجدها إبراهيم وسط ألسنة النار، ووجدها يوسف في غيابت الجُبِّ وغياهب السجن، ووجدها إسماعيل وأمُّه هاجر في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، ووجدها يونس في بطن الحوت، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفل وفي قصر فرعون وهو متربص به، ووجدها أصحاب الكهف حين افتقدوها في القصور بين أقوامهم، ووجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وهما مطاردان([12]).
5- اللَّه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها:
وذلك لأن رحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من جزءٍ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته هو الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي - وفي رواية البخاري -: تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ ) قلنا: لا واللَّه ! وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ( اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها )([13]).
وقال حماد بن سلمة: ( ما يسرني أن امري يوم القيامة صار إلى والديَّ إن ربي أرحم بي من والديَّ ).
* * *
ثانيًا: فانظر إلى آثار رحمة اللَّه:
إن آثار وعلامات رحمة اللَّه أظهر من أن تُبين وأكثر من أن تُحْصَى، قال تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم: 34 ]. ففي كل نعمة رحمة يستدل عليها كل ذي عقل صحيح، ويعرفها كل ذي قلب سليم، ولا ينكرها إلا كل ظلومٍ كفارٍ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليل. كما قال الشاعر:
وقد اخترنا بعض هذه الآثار على سبيل المثال، فمن ذلك:
1- خلق الإنسان:
فمن رحمة اللَّه تعالى أنه خلق الإنسان من عدم وأنشأه وجعل له السمع والبصر والفؤاد والعقل، كل هذا من تراب فأيُّ فضل وأيُّ نعمة بعد اصطفاء اللَّهِ لبعض التراب والطين ليجعله إنسانًا يعقل ويشعر ويؤمن ثم يدخله الجنة، فسبحان اللَّه وبحمده. قال تعالى: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن: 1 - 4 ].
2- النبوة والرسالة رحمة:
فقد سُمَّيت النبوة والوحي رحمة كما في قوله تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام: { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } [ هود: 28 ]. قال ابن كثير: في هذه الآية: أي على يقين وأمرٍ جليّ، ونبوةٍ صادقة وهي الرحمة العظيمة من اللَّه به([14]).
3- إرسال النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء: 107 ]. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ( إني لم أُبعث لعانًا وإنما بُعثت رحمة )([15]). وفي الحديث الآخر: ( إنما أنا رحمة مهداة )([16]).
4- نزول القرآن:
قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل: 89 ].
5- أن جعلك مسلمًا:
قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس: 58 ]. قال ابن كثير: أي بهذا الذي جائهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به([17]).
وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي أُمر فيه بالفرح.
6- ندائه في الثلث الأخير من الليل ليرحم عباده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخرُ يقولُ: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ )([18]).
وفي حديث آخر: ( من ذا الذي يَسْتَرْزِقُني أرْزُقْه ؟ من ذا الذي يستكشفُ الضرَّ أكْشِفْه ). حتى ينفجر الصبح([19]).
وفي حديث آخر: ( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملكُ، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني.. )([20]).
بالله عليك لو أن أمير بلدك، أو رئيس دولتك بعث إليك أنه سوف يأتي إليك ليحقق لك ما تتمنى منه، ألا يجعلك هذا له مُحبًّا وإلى لقائه متشوقًا ؟ هل كنت تنام وتتركه ؟ أو تنسى موعده ؟ وهل ستكون موقنًا على تنفيذ ما تتمنى أم لا ؟
هذا من بشر ضعيف لا يملك لك ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا فكيف برب العالمين جل جلاله.
7- تقرُّبُه إلى خَلْقِهِ:
سبحان اللَّه يتقرب من خلقه وهو غني عنهم، ويتودَّدَ إليهم وهم لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا، ولكن نعمة منه وفضلاً ورحمة وإحسانًا.
وانظر أخي الكريم وتأمَّل هذا الحديث الذي تنفطر له القلوبُ وتدمعُ له العيونُ. فعن أبي هريرة قال: رُبَّما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال اللَّه عز وجل: إذا تَقَرَّبَ العبدُ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقربت منه باعًا أو بوعًا )([21]).
يا اللَّه، يا اللَّه، مَنْ يتقرب إلى مَن ؟ ومَنْ يُهرول إلى مَنْ ؟ يتقرب الخالق إلى المخلوق ويهرول ملك الملوك إلى عبد فقير صعلوك. سبحان اللَّه ما أرحمه وما أكرمه.
8- ذكره لعباده الصالحين:
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال اللَّه: يا ابن آدم، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة، أو في ملأ خير منهم، وإن دنوتَ مني شبرًا، دوتُ منك ذراعًا، وإن دنوتَ مني ذراعًا دنوتُ منك باعًا، وإن أتيتني تمشي، أتيتك أهرول ). قال قتادة: فاللَّه عز وجل أسرع بالمغفرة.
أخي الكريم، هل تصورت كيف يذكرك ربك ؟ هل تَخَيَّلْتَ أن يذكرك اللَّهُ باسمك ؟ نعم يذكرك أنت باسمك بين ملائكته في الملأ الأعلى. من الذي يذكرك ؟ اللَّه. اللَّه. اللَّه الذي يذكرك.
فيا له من عظيم شرفٍ وكبير قدرٍ لا يعرفه إلا من عرف ربَّه وأحبَّه، فانظر إلى واحد من هؤلاء وهو أبي بن كعب رضي الله عنه حين عَلِمَ أن اللَّه تبارك وتعالى قد ذكره باسمه، وكيف هطلت عيناه دمع الفرح والحنين إلى أرحم الراحمين.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبي بن كعب: ( إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ). قال: وسمَّاني لك ؟ قال: ( نعم ). فبكى([22]).
قال يحيى بن معاذ الرازي: يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمتَّ شوقًا إلى مولاك.
فليس العجب من قوله: ( فاذكرونى )، ولكن العجب كل العجب من قوله: ( أذكركم )، فليس العجب أن يذكر الضعيفُ القوىَّ، أو يذكر الفقيرُ الغنىَّ، أو يذكر الذليلُ العزيزَ، إنما العجب أن يذكر القوىُّ الضعيف، والغنىُّ الفقير، والعزيزُ الذليلَ.
9- صبر اللَّه جلال جلاله على الأذى من خلقه:
فسبحان اللَّه ما أحلمه، وما أكرمه وما أرحمه، يخلق ويُعْبَدُ غيرُه، ويرزق ويُشكرُ سواه، خيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد من الذين يدَّعون له الولد يصبر على أذاهم ويبعث إليهم بأرزاقهم، عسى أن يصادف هذا الكرم عقلاً ذاكيًا أو قلبًا واعيًا أو نفسًا طيبة أو فطرة سليمة تفيق من غفوتها وترجع عن ضلالتها تعرف ربَّها فتعبده وحده وتحبه وحده سبحانه وتعالى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من اللَّه يدَّعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم )([23]).
هذه رحمته سبحانه بمن أشرك به، فكيف رحمته بمن وحَّده وعبده وأطاعه وأحبه وأحب رسوله وجاهد في سبيله.
10- رحمته بالتائبين([24]):
فإن التائبين قد انكسرت قلوبهم لعظمته، وذلَّت جباهم لعزته، وأتوه راجين رحمته ويخافون عذابه، فما عسى أن تكون رحمة اللَّه بهم ؟
فإليك شيء منها:
أولاً: يغفر الذنوب مهما عَظُمَت:
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة )([25]).
ثانيًا: ويبسط يده للتائبين ليلاً ونهارًا:
عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل لتيوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها )([26]).
ثالثًا: ويفرح بتوبة عبده:
ومع هذا فقد فرح بها فرحًا هو أشد من فرحة رجلٍ وجد حياته بعدما عدَّ نفسه من الأموات، وهي فرحة إحسانٍ وبِرٍّ ولطف، لا فرحة محتاجٍ إلى توبة عبده منتفعٍ بها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة )([27]).
وفي رواية: ( للَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك ؛ إذ هو بها قائمة عنده بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح )([28]). ففي هذا الحديث دليل على فرح اللَّه عز وجل بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك سبحانه وتعالى محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا، فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يغفر وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ، ولهذا يفرح بتوبة الإنسان([29]).
رابعًا: ويبدل السيئات حسنات:
قال تعالى: { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان: 70 ].
وقال الحسن البصري: أبدلهم اللَّه العمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وأبدلهم بالفجور إحصانًا، وبأدلهم بالكفر إسلامًا([30]).
11- صَلاتُه جل جلاله على المؤمنين:
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب: 43 ]. قال ابن كثير: والصلاة من اللَّه ثناؤه على العبد عند الملائكة. حكاه البخاري عن أبي العالية... وقال غيره: الصلاة من اللَّه عز وجل الرحمة، وقد يقال: لا منافاة بين القولين. واللَّه أعلم([31]).
12- مضاعفة الحسنات والأجور:
فمن رحمته سبحانه مضاعفة الحسنات إلى ضعاف كثيرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف )([32]). ومن الأعمال ما ينميها اللَّه حتى يجعلها كالجبل. فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيبٍ ولا يقبل اللَّه إلا الطيب، فإن اللَّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل )([33]).
13- رحمة اللَّه تبارك وتعالى بقلوب عباده:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء )([34]).
1- فإذا شاء اللَّهُ لعبد الهدى شرح قلبه للإسلام. قال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ } [ الأنعام: 125 ].
2- وإذا أراد بعبد رشادًا حبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه فعاش بالإيمان سعيدًا وعن الكفر والعصيان بعيدًا. قال تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات: 7، 8 ].
3- ويُسعد المؤمنين بحبهم له ولرسوله وحب المؤمنين في اللَّه فيشعر بحلاوة الإيمان ولذة القرب من الرحمن جل جلاله. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )([35]).
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم: 96 ]. وذلك بعكس الطغاة والعصاة أمثال المشركين من أهل الكتاب، فقد قال تعالى في النصارى: { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة: 114 ].
14- الجنة من رحمة اللَّه عز وجل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطُهم، قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذابٌ أعذِّبُ بك من أشاء من عبادي )([36]).
15- دخول الجنة برحمة اللَّه عز وجل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل أحدًا الجنة عمله ). قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ( ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه بمغفرة منه ورحمة )([37]).
16- شفاعة أرحم الراحمين في أهل النار:
فما من أحدٍ يملك لغيره شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضى. قال تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }. وسيجعل اللَّه درجاتٍ للشفاعة والشافعين، فهناك شفاعة للأنبياء والمرسلين، وشفاعة للصديقين، وشفاعة الشهداء فيُشَفِّعُهم اللَّه عز وجل، ثم بعد ذلك يشفع هو سبحانه وبحمده شفاعة فيخرج أضعاف ما أخرجه كل هؤلاء حتى يعجب أهلُ الجنة من ذلك، وإليك صورًا من شفاعة أرحم الراحمين:
شفاعته عز وجل في الموحدين:
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الطويل: ( ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النبيُّ ومعه العِصابة، والنبي ومعه الخمسةُ والستة، والنبي وليس معه أحد، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك. قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أَدْخِلُوا جَنَّتِي من كان لا يُشْرِك بي شيئًا ). قال: ( فيدخلون الجنة... )([38]).
وفي حديث آخر: ( فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخْرِجَنَّ منها من قال: لا إله إلا اللَّه )([39]).
وفي رواية: أن اللَّه تبارك وتعالى يقول للرسل: ( اذهبوا، أو انطلقوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجوه ). ثم يقول اللَّه عز وجل: ( أنا الآن أُخْرِج بعلمي ورحمتي ). فيُخرج أضعافَ ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء اللَّه عز وجل، ثم يدخلون الجنة([40]).
17- رحمته بالنمل، سبحان اللَّه وبحمده:
عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قَرَصَتْ نملةُ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحْرقت، فأوحى اللَّه إليه: ( أنْ قَرَصَتْك نملة أحرقت أمةً من الأمم تُسبح اللَّه )([41]). وفي رواية: ( فأوحى اللَّه إليه: فهلا نملةً واحدةً )([42]).
فسبحان من لم تمنعه عظمته وكبريائه من رحمة الضعيف الصغير من خلقه حتى يعاتب نبيًا له من أجل نملٍ، لا حول له ولا قوة إلا بربه.
مختارات