(( الرحمن - الرحيم )) جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه 1
(( الرحمن - الرحيم ))
جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه
أولاً : المعنى اللغوي :
الرحمة : هي الرقة والتَّعَطُّف ، والاسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و(( رحمن )) أشد مبالغة من (( رحيم )) ؛ لأن بناء (( فعلان )) أشد مبالغة من (( فعيل )) ونظيرهما نديم وندمان . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا([1]) .
ثانيًا ورود الاسمين في القرآن الكريم :
ذُكر (( الرحمن )) في القرآن سبعًا وخمسين مرة ؛ منها قوله تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ] .
وأما اسمه (( الرحيم )) ، فقد ذُكر أكثر من مائة مرة ؛ منها : قوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 54 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وهو كثير في القرآن ، انظر سورة (( البقرة )) ( 173 ، 182 ، 189 ) .
معنى الاسمين في حق اللَّه تعالى :
الاسمان مشتقان من الرحمة ، و(( الرحمن )) أشد مبالغة من (( الرحيم )) ، ولكن ما الفرق بينهما ؟ هناك ثلاثة أقوال في الفرق بين هذين الاسمين الكريمين:
الأول : أن اسم (( الرحمن )) : هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة. و(( الرحيم )) : هو ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، فذكر الاستواء باسمه (( الرحمن )) ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، فخصَّ المؤمنين باسمه (( الرحيم ))([2]) .
ولكن قد يُردُّ على هذا القول بقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] .
القول الثاني : هو أن (( الرحمن )) دال على صفة ذاتية ، و(( الرحيم )) دال على صفة فعلية .
قال ابن القيم رحمه اللَّه: إن (( الرحمن )) دالٌ على الصفةِ القائمة به سبحانه، و(( الرحيم )) دال على تعلقها بالمرحوم (( أي بمن يرحمهم اللَّه )) ، فكان الأول للوصف والثاني للفعل .
فالأول دال على أن الرحمة صفته ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته .
وإذا أردت فهم هذا فتأمَّل قوله : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ، ولم يجئ قط (( رحمن بهم )) فعُلِمَ أن (( رحمن )) هو الموصوف بالرحمة و(( رحيم )) هو الراحم برحمته([3]).
القول الثالث : أن (( الرحمن )) خاص الاسم عام المعنى ، و(( الرحيم )) عام الاسم خاص المعنى .
إذ أن (( الرحمن )) من الأسماء التي نُهِيَ عن التسمية بها لغير الله تبارك وتعالى ، كما قال عز وجل : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 11 ] ، فعادل به الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهو (( اللَّه ))([4]) .
ولذلك قال ابن القيم رحمه اللَّه عن اسم (( الرحمن )) : ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حَسُنَ مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك . ولم يجيء قط تابعًا لغيره بل متبوعًا وهذا بخلاف العليم ، والقدير ، والسميع والبصير ، ونحوها ، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة ، فتأمل هذه النكتة البديعة([5]) .
وعن الحسن أنه قال : (( الرحمن )) اسم لا يستطيع الناسُ أن ينتحلوه ، تسمى به تبارك وتعالى ، ولذا لا يجوز أن يُصْرَف للخلق([6]) .
وأما (( الرحيم )) فإنه تعالى وصف به نبيَّه عليه الصلاة والسلام ، حيث قال: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، فيُقال : رجل رحيم ، ولا يقال : رحمن .
قال ابن كثير : والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يُسمى به غيره ، ومنها ما لا يُسمى به غيره ، كاسم (( اللَّه )) ، و(( الرحمن )) ، و(( الخالق )) ، و(( الرزاق )) ، ونحو ذلك ، فلهذا بدأ باسم اللَّه ووصفه بالرحمن ؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء ، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص([7]) . اهـ .
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين :
أولاً : التعرُّف على اللَّه برحمته والإيمان بها .
وسنحاول فيما يلي التعرض إلى جانبٍ من رحمة اللَّه عزَّ وجلَّ ، عسى أن ترق القلوبُ إلى خالقها وتشتاق النفوس إلى بارئها .
1- ربكم ذو رحمة واسعة :
قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] .
2- رحمة اللَّه تغلب غضبه :
قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ] . قال ابن كثير في هذه الآية : أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحسانًا وامتنانًا([8]) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن اللَّه لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه : إن رحمتي سبقت غضبي )) . وفي رواية : (( لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه هو يكتب على نفسه ، وهو وضع عنده على العرش : إن رحمتي تَغْلِبُ غضبي ))([9]) .
3- إن للَّه مائة رحمة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها )) . وفي رواية : (( حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وأخَّر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحمُ بها عباده يوم القيامة )) . وفي رواية : (( إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة )) . وفي رواية : (( كل رحمةٍ طباق ما بين السماء والأرض ، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ))([10]) .
هذه رحمة اللَّه المخلوقة ، فكيف برحمة اللَّه التي هي من صفاته وليست مخلوقة ولا تنفد أبدًا وليس لها حدّ ، ولا نهاية . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد ))([11]) .
4- إن اللَّه تبارك وتعالى بيده الرحمة وحده :
ومن رحمته : أن أحدًا من خلقه لا يستطيع أن يحجب رحمته أو منعها عن أحبابه ، قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] .
فرحمة اللَّه لا تعزُّ على طالب في أي زمان أو مكان : وجدها إبراهيم وسط ألسنة النار ، ووجدها يوسف في غيابت الجُبِّ وغياهب السجن ، ووجدها إسماعيل وأمُّه هاجر في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء ، ووجدها يونس في بطن الحوت ، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفل وفي قصر فرعون وهو متربص به ، ووجدها أصحاب الكهف حين افتقدوها في القصور بين أقوامهم ، ووجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وهما مطاردان([12]) .
5- اللَّه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها :
وذلك لأن رحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من جزءٍ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته هو الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبي ، فإذا امرأة من السبي تبتغي - وفي رواية البخاري -: تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته . فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ )) قلنا: لا واللَّه ! وهي تقدر على أن لا تطرحه . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها ))([13]) .
وقال حماد بن سلمة : (( ما يسرني أن امري يوم القيامة صار إلى والديَّ إن ربي أرحم بي من والديَّ )) .
* * *
ثانيًا : فانظر إلى آثار رحمة اللَّه :
إن آثار وعلامات رحمة اللَّه أظهر من أن تُبين وأكثر من أن تُحْصَى ، قال تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . ففي كل نعمة رحمة يستدل عليها كل ذي عقل صحيح ، ويعرفها كل ذي قلب سليم ، ولا ينكرها إلا كل ظلومٍ كفارٍ ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليل . كما قال الشاعر :
وكيف يَصحُّ في الأذهان شىءٌ
|
| إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلٍ |
وقد اخترنا بعض هذه الآثار على سبيل المثال ، فمن ذلك :
1- خلق الإنسان :
فمن رحمة اللَّه تعالى أنه خلق الإنسان من عدم وأنشأه وجعل له السمع والبصر والفؤاد والعقل ، كل هذا من تراب فأيُّ فضل وأيُّ نعمة بعد اصطفاء اللَّهِ لبعض التراب والطين ليجعله إنسانًا يعقل ويشعر ويؤمن ثم يدخله الجنة ، فسبحان اللَّه وبحمده . قال تعالى : { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] .
2- النبوة والرسالة رحمة :
فقد سُمَّيت النبوة والوحي رحمة كما في قوله تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } [ هود : 28 ] . قال ابن كثير : في هذه الآية : أي على يقين وأمرٍ جليّ ، ونبوةٍ صادقة وهي الرحمة العظيمة من اللَّه به([14]) .
3- إرسال النبيِّ صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( إني لم أُبعث لعانًا وإنما بُعثت رحمة ))([15]) . وفي الحديث الآخر : (( إنما أنا رحمة مهداة ))([16]) .
4- نزول القرآن :
قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .
5- أن جعلك مسلمًا :
قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]. قال ابن كثير : أي بهذا الذي جائهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به([17]) .
وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي أُمر فيه بالفرح .
6- ندائه في الثلث الأخير من الليل ليرحم عباده :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخرُ يقولُ : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ))([18]) .
وفي حديث آخر : (( من ذا الذي يَسْتَرْزِقُني أرْزُقْه ؟ من ذا الذي يستكشفُ الضرَّ أكْشِفْه )) . حتى ينفجر الصبح([19]) .
وفي حديث آخر : (( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول ، فيقول : أنا الملكُ ، أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني .. ))([20]).
بالله عليك لو أن أمير بلدك ، أو رئيس دولتك بعث إليك أنه سوف يأتي إليك ليحقق لك ما تتمنى منه ، ألا يجعلك هذا له مُحبًّا وإلى لقائه متشوقًا ؟ هل كنت تنام وتتركه ؟ أو تنسى موعده ؟ وهل ستكون موقنًا على تنفيذ ما تتمنى أم لا ؟
هذا من بشر ضعيف لا يملك لك ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا فكيف برب العالمين جل جلاله .
7- تقرُّبُه إلى خَلْقِهِ :
سبحان اللَّه يتقرب من خلقه وهو غني عنهم ، ويتودَّدَ إليهم وهم لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا ، ولكن نعمة منه وفضلاً ورحمة وإحسانًا .
وانظر أخي الكريم وتأمَّل هذا الحديث الذي تنفطر له القلوبُ وتدمعُ له العيونُ . فعن أبي هريرة قال : رُبَّما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال اللَّه عز وجل : إذا تَقَرَّبَ العبدُ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا ، وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقربت منه باعًا أو بوعًا ))([21]) .
يا اللَّه ، يا اللَّه ، مَنْ يتقرب إلى مَن ؟ ومَنْ يُهرول إلى مَنْ ؟ يتقرب الخالق إلى المخلوق ويهرول ملك الملوك إلى عبد فقير صعلوك . سبحان اللَّه ما أرحمه وما أكرمه .
8- ذكره لعباده الصالحين :
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال اللَّه : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ، أو في ملأ خير منهم ، وإن دنوتَ مني شبرًا ، دوتُ منك ذراعًا ، وإن دنوتَ مني ذراعًا دنوتُ منك باعًا ، وإن أتيتني تمشي ، أتيتك أهرول )) . قال قتادة : فاللَّه عز وجل أسرع بالمغفرة .
أخي الكريم ، هل تصورت كيف يذكرك ربك ؟ هل تَخَيَّلْتَ أن يذكرك اللَّهُ باسمك ؟ نعم يذكرك أنت باسمك بين ملائكته في الملأ الأعلى . من الذي يذكرك ؟ اللَّه . اللَّه . اللَّه الذي يذكرك .
فيا له من عظيم شرفٍ وكبير قدرٍ لا يعرفه إلا من عرف ربَّه وأحبَّه ، فانظر إلى واحد من هؤلاء وهو أبي بن كعب رضي الله عنه حين عَلِمَ أن اللَّه تبارك وتعالى قد ذكره باسمه ، وكيف هطلت عيناه دمع الفرح والحنين إلى أرحم الراحمين .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبي بن كعب : (( إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } )) . قال : وسمَّاني لك ؟ قال : (( نعم )) . فبكى([22]).
قال يحيى بن معاذ الرازي : يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمتَّ شوقًا إلى مولاك .
فليس العجب من قوله : (( فاذكرونى )) ، ولكن العجب كل العجب من قوله : (( أذكركم )) ، فليس العجب أن يذكر الضعيفُ القوىَّ ، أو يذكر الفقيرُ الغنىَّ ، أو يذكر الذليلُ العزيزَ ، إنما العجب أن يذكر القوىُّ الضعيف ، والغنىُّ الفقير ، والعزيزُ الذليلَ .
9- صبر اللَّه جلال جلاله على الأذى من خلقه :
فسبحان اللَّه ما أحلمه ، وما أكرمه وما أرحمه ، يخلق ويُعْبَدُ غيرُه ، ويرزق ويُشكرُ سواه ، خيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد من الذين يدَّعون له الولد يصبر على أذاهم ويبعث إليهم بأرزاقهم ، عسى أن يصادف هذا الكرم عقلاً ذاكيًا أو قلبًا واعيًا أو نفسًا طيبة أو فطرة سليمة تفيق من غفوتها وترجع عن ضلالتها تعرف ربَّها فتعبده وحده وتحبه وحده سبحانه وتعالى .
وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من اللَّه يدَّعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ))([23]) .
هذه رحمته سبحانه بمن أشرك به ، فكيف رحمته بمن وحَّده وعبده وأطاعه وأحبه وأحب رسوله وجاهد في سبيله .
10- رحمته بالتائبين([24]) :
فإن التائبين قد انكسرت قلوبهم لعظمته ، وذلَّت جباهم لعزته ، وأتوه راجين رحمته ويخافون عذابه ، فما عسى أن تكون رحمة اللَّه بهم ؟
فإليك شيء منها :
أولاً : يغفر الذنوب مهما عَظُمَت :
عن أنس رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( قال اللَّه تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة ))([25]) .
ثانيًا : ويبسط يده للتائبين ليلاً ونهارًا :
عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل لتيوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها ))([26]) .
ثالثًا : ويفرح بتوبة عبده :
ومع هذا فقد فرح بها فرحًا هو أشد من فرحة رجلٍ وجد حياته بعدما عدَّ نفسه من الأموات ، وهي فرحة إحسانٍ وبِرٍّ ولطف ، لا فرحة محتاجٍ إلى توبة عبده منتفعٍ بها .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ))([27]) .
وفي رواية : (( للَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك ؛ إذ هو بها قائمة عنده بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ))([28]) . ففي هذا الحديث دليل على فرح اللَّه عز وجل بالتوبة من عبده إذا تاب إليه ، وأنه يحب ذلك سبحانه وتعالى محبة عظيمة ، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا ، فالله غني عنا ، ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يغفر وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ ، ولهذا يفرح بتوبة الإنسان([29]) .
رابعًا : ويبدل السيئات حسنات :
قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 70 ] .
وقال الحسن البصري : أبدلهم اللَّه العمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا ، وأبدلهم بالفجور إحصانًا ، وبأدلهم بالكفر إسلامًا([30]) .
11- صَلاتُه جل جلاله على المؤمنين :
قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] . قال ابن كثير : والصلاة من اللَّه ثناؤه على العبد عند الملائكة . حكاه البخاري عن أبي العالية ... وقال غيره : الصلاة من اللَّه عز وجل الرحمة ، وقد يقال : لا منافاة بين القولين . واللَّه أعلم([31]) .
12- مضاعفة الحسنات والأجور :
فمن رحمته سبحانه مضاعفة الحسنات إلى ضعاف كثيرة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ))([32]) . ومن الأعمال ما ينميها اللَّه حتى يجعلها كالجبل . فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيبٍ ولا يقبل اللَّه إلا الطيب ، فإن اللَّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ))([33]) .
13- رحمة اللَّه تبارك وتعالى بقلوب عباده :
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ))([34]) .
1- فإذا شاء اللَّهُ لعبد الهدى شرح قلبه للإسلام . قال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .
2- وإذا أراد بعبد رشادًا حبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه فعاش بالإيمان سعيدًا وعن الكفر والعصيان بعيدًا . قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 7، 8 ] .
3- ويُسعد المؤمنين بحبهم له ولرسوله وحب المؤمنين في اللَّه فيشعر بحلاوة الإيمان ولذة القرب من الرحمن جل جلاله . عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللَّهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ))([35]) .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ]. وذلك بعكس الطغاة والعصاة أمثال المشركين من أهل الكتاب ، فقد قال تعالى في النصارى : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة : 114 ] .
14- الجنة من رحمة اللَّه عز وجل :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحاجَّت الجنة والنار ، فقالت النار : أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطُهم ، قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة : أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنتِ عذابٌ أعذِّبُ بك من أشاء من عبادي ))([36]) .
15- دخول الجنة برحمة اللَّه عز وجل :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل أحدًا الجنة عمله )) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا ، إلا أن يتغمدني اللَّه بمغفرة منه ورحمة ))([37]) .
16- شفاعة أرحم الراحمين في أهل النار :
فما من أحدٍ يملك لغيره شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضى . قال تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } . وسيجعل اللَّه درجاتٍ للشفاعة والشافعين ، فهناك شفاعة للأنبياء والمرسلين ، وشفاعة للصديقين ، وشفاعة الشهداء فيُشَفِّعُهم اللَّه عز وجل ، ثم بعد ذلك يشفع هو سبحانه وبحمده شفاعة فيخرج أضعاف ما أخرجه كل هؤلاء حتى يعجب أهلُ الجنة من ذلك ، وإليك صورًا من شفاعة أرحم الراحمين :
شفاعته عز وجل في الموحدين :
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الطويل : (( ثم يقال : ادعوا الصديقين فيشفعون ، ثم يقال : ادعوا الأنبياء ، قال : فيجيء النبيُّ ومعه العِصابة ، والنبي ومعه الخمسةُ والستة ، والنبي وليس معه أحد ، ثم يقال : ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا ، وقال : فإذا فعلت الشهداء ذلك . قال : يقول الله عز وجل : أنا أرحم الراحمين ، أَدْخِلُوا جَنَّتِي من كان لا يُشْرِك بي شيئًا )) . قال : (( فيدخلون الجنة ... ))([38]) .
وفي حديث آخر : (( فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخْرِجَنَّ منها من قال : لا إله إلا اللَّه ))([39]) .
وفي رواية : أن اللَّه تبارك وتعالى يقول للرسل : (( اذهبوا ، أو انطلقوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجوه )) . ثم يقول اللَّه عز وجل : (( أنا الآن أُخْرِج بعلمي ورحمتي )) . فيُخرج أضعافَ ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء اللَّه عز وجل ، ثم يدخلون الجنة([40]) .
17- رحمته بالنمل ، سبحان اللَّه وبحمده :
عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قَرَصَتْ نملةُ نبيًا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأُحْرقت ، فأوحى اللَّه إليه : (( أنْ قَرَصَتْك نملة أحرقت أمةً من الأمم تُسبح اللَّه ))([41]) . وفي رواية : (( فأوحى اللَّه إليه : فهلا نملةً واحدةً ))([42]) .
فسبحان من لم تمنعه عظمته وكبريائه من رحمة الضعيف الصغير من خلقه حتى يعاتب نبيًا له من أجل نملٍ ، لا حول له ولا قوة إلا بربه .