فقه الغنى (٣)
وتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره؛ لصحة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطر لها كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
والدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده، وهذا الغنى أعلى درجات الغنى.
لأنه غنى بالحق سبحانه، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده، يعرف بذلك النور عظمة الذات كما يعرف عظمة الصفات، ويميز به بين الحي الذي يموت ويفنى، والحي الباقي الذي لا يزول ولا يفنى، فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم.
فيا له من فقر ينقضي، ومن غنى يدوم، ومن عيش لذيذ.
ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين؛ لأنه قد قرت عينه بالله، والفوز بوجوده، فيناجيه ويعبده كأنه يراه، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة» أخرجه ابن ماجه (١).
وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه، فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟.
فالفقر الحقيقي: الافتقار إلى الله في جميع الأحوال، والاستغناء به في جميع الأحوال، وأحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه في جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وحاجات هذا العبد الفقير إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات، وطلبها ممن يملكها بطريقها الصحيح، فهو عامل على مراد الله منه، لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله، قد خلص بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله.
وقد نزه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الفقر الذي يسوغ أخذ الصدقة بقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨)} [الضحى: ٦ - ٨].
وعوضه سبحانه عما نزهه عنه بأشرف المال وأجله وأفضله، وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله، الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً كما قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)} [الحشر: ٧].
فالله عزَّ وجلَّ خلق المال ليستعان به على طاعته ونفع عباده، وهو بأيدي الكفار ظلماً وعدواناً.
فإذا فاء ورجع إلى أولياء الله وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم.
ولكن لم يكن غنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وملكه من جنس غنى بني الدنيا وأملاكهم، فإن غناهم بالشيء، وغناه - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء وهو الغنى العالي.
وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بإذن سيده كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأنَا الْقَاسِمُ، وَلا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» متفق عليه (٢).
وذلك لكمال مرتبة عبوديته، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عزَّ وجلَّ، والعبد لا مال له فيورث عنه.
وقد جمع الله عزَّ وجلَّ له بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، وأكمل له بذلك مراتب الكمال، فكان في فقره أصبر خلق الله، وأشكرهم له، وكذلك في غناه.
وقد جعله الله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، وعرض عليه أن يجعل له جبل الصفا ذهباً فلم يقبله، وخير بين أن يكون ملكاً نبياً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً.
ومع هذا جبيت إليه أموال جزيرة العرب وغنائم حنين، فأنفقها كلها، ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمل عيال المسلمين وديونهم فقال: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه (٣).
فرفع الله سبحانه قدر نبيه أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين أغناهم بالأموال المكتسبة والموروثة، بل أغناه به عما سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسع عليه غاية السعة.
فأنفق - صلى الله عليه وسلم - غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، ولا استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقاراً ولا أرضاً، ولا ترك شاة، ولا بعيراً، ولا عبداً، ولا ديناراً ولا درهماً.
فصلوات الله وسلامه عليه، فقد أكمل مرتبتي الغنى والفقر، وأوفاهما حقهما وعبوديتهما، وقد أغنى الله به الفقراء، وأعز به الأذلاء.
فما نالت أمته الغنى والعز إلا بسببه، وأغنى الناس من صار غيره به غنياً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨].
وأعظم ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ربه كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي هو هدى للناس، وموعظة للقلوب، وشفاء لما في الصدور ورحمة للعالمين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)} [يونس: ٥٧، ٥٨].
فالقرآن العظيم شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني.
وفي القرآن الكريم من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت عند الإنسان الرغبة في الخير والرهبة من الشر أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوات نفسه.
وفي القرآن الحكيم من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبيَّنها أحسن بيان ما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
والقرآن المجيد هدى للناس، ورحمة للعالمين، والهدى هو العلم بالحق، والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به، فالهدى أجلّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يُهتدى به ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور، وحصل الغنى التام للقلب ولذلك أمر الله عباده بالفرح بذلك فقال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)} [يونس: ٥٨].
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين أعظم نعمة ينعم بها الإنسان على الإطلاق، ولا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل.
(١) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (٤١٠٥)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (٣٣١٣).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (٩٥٠).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣١١٦)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٠٣٧).
(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٣٩٨) واللفظ له، ومسلم برقم (١٦١٩).
مختارات