فقه الغنى (١)
قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)} [آل عمران: ١٦٤].
وقال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)} [يونس: ٥٨].
الغنى: اسم للملك التام، فالمالك من وجه دون وجه ليس بغني، وعلى هذا لا يستحق اسم الغني بالحقيقة إلا الله وحده، وكل ما سواه فقير إليه بالذات.
ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم.
والغنى في الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق.
وكما أن كون الإنسان مخلوقاً أمر ذاتي له، فكونه فقيراً أمر ذاتي له، وغناه أمر نسبي عارض له، فإنه قد استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به، فقير إليه.
ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته، وهو الله الغني بذاته عما سواه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)} [فاطر: ١٥].
وغنى البشر قسمان:
غنى عال.
وغنى سافل.
فالغنى السافل هو الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والأموال، والأنعام، والحرث والزرع، والعقار والمراكب ونحو ذلك.
وهذا أضعف الغنى، فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع إلى مالكها سبحانه عن قريب.
ولا أضعف من همة مَنْ رضي بهذا الغنى الزائل، وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، ولا أحب إلى الشيطان ولا أبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى، والخوف من فقده.
فجدير بمن نصح نفسه أن لا يغتر به، ولا يجعله غاية مراده، بل إذا حصل له جعله سبباً لكسب الأجور، ووسيلة لغناه الأكبر، ويجعله خادماً من خدمه لا خادماً له، ويعز نفسه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)} [الزمر: ٦٦].
أما الغنى العالي، فإن العبد إنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته، ويدفع حاجته، وهو نوعان: غنى بالله.
وغنى عن غير الله.
وفي قلب الإنسان فاقة عظيمة، وضرورة تامة، وحاجة شديدة، لا يسدها إلا بحصول الغني الحميد، الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء.
ومن استغنى به سبحانه عما سواه زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور وفرح.
والغنى على ثلاث درجات:
الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، فيتعلق بالله وحده، وإذا تعلق به تخلص من التعلق بغيره.
والغنى عند أهل الغفلة بالسبب والأشياء، ولذلك قلوبهم معلقة به، وصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها.
وغنى العارفين بالمسبب سبحانه، فمن كان سكونه إلى ربه فهو غني به، وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه.
الثانية: غنى النفس، فالنفس من جند القلب ورعيته، وهي من أشد جنده خلافاً عليه وشقاقاً له، وغناها تماماً لغناه، ويكون ذلك باستقامتها على المرغوب وهو الحق سبحانه باستدامة طلبه، وقطع المنازل بالسير إليه، وسلامتها من التعلق بغير الله، وبراءتها من المراءاة، وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها.
فمراداتها دليل على شدة فقرها، وعدم استقامتها على مطلوبها الحق.
وذلك يدل على أنها غير واجدة لله، إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه، ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره، ولمََا أرادت بعملها غيره.
الثالثة: الغنى بالحق، وذلك يكون بشهود ذكره إياك، ومطالعة سبقه للأشياء جميعاً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والفوز بوجوده، فهو الموجود بذاته، والغني بذاته، وجميع المخلوقات في العالم العلوي والسفلي هو الذي كساها حلة الوجود، فهي معدومة بالذات، فقيرة إليه بالذات، وهو سبحانه الغني بذاته: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: ٦٨].
والقلب لما كان هو الملك، فصلاحه صلاح لجميع رعيته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (١).
فالقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه، وعطاياه السنية من الإيمان والتوحيد، والمعرفة والعبودية، والطاعة والاستقامة، خلع على الأمراء والرعية خلعاً تناسبها، تأنس بها وتسعد بها:
فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة، والرضا والإخبات، فأدت الحقوق سمحة بانشراح ورضى، وجانست القلب ووافقته، وصارت وزير صدق، بعد أن كانت عدوة له معاندة له.
وأثمرت هذه المؤازرة والموافقة الطمأنينة واللذة.
وسلاح النفس كامن متوارٍ، لولا قوة سلطان القلب وقهره لها لحاربت بكل سلاح تملكه.
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار والانقياد، وخلع على الوجه خلعة المهابة والنور والبهاء.
، وخلع على اللسان خلعة الصدق، والقول السديد والحكمة النافعة.
، وخلع على العين خلعة الاعتبار في النظر، والغض عن المحارم.
، وخلع على الأذن خلعة استماع النصيحة، واستماع القول النافع من كلام الله ورسوله.
، وخلع على اليدين والرجلين خلعة المسابقة والمسارعة إلى الخيرات والطاعات.
، وخلع على الفرج خلعة العفة عما حرم الله.
وهكذا.
فلا ترى هذا العبد إلا يغدو ويروح يرفل في هذه الخلع والحلل.
فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس فذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض.
وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر، وطلبها الرفيق الأعلى، فحينئذٍ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق.
مؤدية لحقوقه.
قائمة بأوامره.
راضية عنه.
مرضية له.
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)} [الفجر: ٢٧ - ٣٠].
فغنى القلب سلامته من الفقر إلى السبب، وشهوده والاعتماد عليه، والركون إليه والثقة به.
فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط.
ومتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن منازعته لأحكام الله، ومن علة مخاصمة الخلق إلا في حقوق ربه استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً أمره إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه (٢).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٢)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٥٩٩).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١١٢٠)، واللفظ له، ومسلم برقم (٧٦٩).
مختارات